عبد الباسط سيدا
ذكّرنا اللقاء الذي تم بين الرئيسين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديميير بوتين في جنيف (16 حزيران/يونيو 2021)، كما ذكّرتنا التصريحات التي سبقته وأعقبته، بتلك اللقاءات التي تمت بين أوباما وبوتين، قبل وبعد التدخل الروسي العسكري المباشر إلى جانب النظام في سوريا (خريف 2015)؛ والتصريحات التي كنا نسمعها قبل وبعد تلك اللقاءات.
فهو لقاء يندرج ضمن سلسلة اللقاءات التفاهمية، مع تحديد وترحيل نقاط التباين والخلاف، ورسم تخوم التواصل والتفاصل، وقواعد التنسيق بناء على طبيعة ومدى صلاحية تلك التفاهمات.
ولكن التجارب مع المواقف الدولية الخاصة بالوضع السوري قد علمتنا أن هذه المواقف قابلة للتحول، والتأويل، والتنصّل، بناء على أولويات الدول المعنية التي تتعامل مع الموضوع السوري بوصفه ملفاً من بين ملفات الصفقات التي تمت، أو ستتم، وفق حسابات تلك الدول. أما معاناة السوريين غير المسبوقة المستمرة منذ عقد من الزمن، فيكون الحديث عنها عادة عند تسويق ما تم الاتفاق حوله في قالب إنساني.
ومن الملاحظ أن الطرفين الأمريكي والروسي يحرصان في الوقت ذاته على تعزيز مواقفهما عبر التفاهم، حتى ولو ضمن الحدود الدنيا مع القوى الدولية والإقليمية القريبة منها.
فقد سبق لقاء بايدن-بوتين كما نعلم لقاؤه مع الحلفاء في الناتو، ومع الدول الأوروبية، ومع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كما سبقه تواصل مع الدول الإقليمية الأساسية في المنطقة. والروس من جانبهم، فعلوا الأمر ذاته مع شركائهم في محور أستانا/ نور سلطان، وكان اجتماعهم الأخير في نور سلطان (7-8 تموز/يوليو 2021) وأصدروا بياناً تضمن هواجس وأهداف كل الأطراف؛ ولكن اللقاء بحد ذاته يندرج ضمن النقاط التي يحرص الروس على جمعها، لصرفها لاحقاً في سياق الصفقات التي ستكون مع الجانب الأمريكي.
ما يستشف من التعامل الأمريكي مع الملف السوري منذ سنوات عديدة هو أن هذا الاهتمام يتمحور حول هدفين أساسيين: أمن إسرائيل أولاً، وثانياً الاحتفاظ بمنطقة شرقي الفرات كمنطقة نفوذ لدورها في الملف العراقي، وذلك من جهة القرب والتأثير بفعل التداخل السكاني.
بالنسبة إلى الهدف الأول، هناك تفاهم روسي- أمريكي- إسرائيلي عليه، يتمثل في التنسيق الأمني المستمر، وفي تنسيق المواقف ميدانياً. وهذا ما يتجلى بصورة أساسية من خلال التجاهل الروسي للغارات الإسرائيلية الدورية على القواعد والقوات وشحنات الأسلحة الخاصة بإيران، وأذرعها الموجودة على الأرض السورية. كما يتمظهر من خلال الحرص الأمريكي على عدم تسليم الروس كامل الملف السوري، وذلك تحسباً لأي طارئ.
أما بالنسبة إلى الهدف الثاني، فهو مرتبط بتطورات الأوضاع الداخلية في العراق. وفي سياق هذا الهدف، تستخدم هذه المنطقة ورقة تفاوضية للضغط على الجانب الإيراني في انتظار ما ستسفر عنه مباحثات فيينا الخاصة بالملف النووي الإيراني من جهة؛ ومعرفة نتائج الجهود التي تبذل من قبل كل من رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي، ورئيس الجمهورية العراقية برهم صالح التي ترمي إلى بلوغ انفتاح عربي على العراق، يعيد التوازن إلى المعادلات المختلّة بين العراق وإيران نتيجة هيمنة الأخيرة على معظم مفاصل الدول والمجتمع العراقيين؛ وذلك عبر الأذرع العسكرية، وواجهاتها السياسية في البرلمان، وبأسمائها المختلفة.
هذا إلى جانب الجهود التي تبذلها عراقياً من أجل ترتيب لقاءات مباشرة أمنية بين الجانبين الإيراني والسعودي، وربما بين إيران والأردن، وذلك بهدف الوصول إلى توافقات معينة مهما كانت متواضعة، حول العديد من ملفات المنطقة.
وبناء على ما تقدم يُعتقد أن الوجود الأمريكي في شرقي الفرات مؤقت عابر، إذا ما سارت التفاهمات الروسية -الأمريكية-الإسرائيلية وفق المتوقع؛ وإذا ما شهد العراق تفاهمات عربية (سعودية، أردنية وربما مصرية) إيرانية، تكون مدخلاً لاستقرار عراقي داخلي نسبي، خاصة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهو الانسحاب الذي سيشكل على الأغلب ضغطاً على النظام الإيراني، ويحد من حرية الحركة التي كان يحظى بها بصورة مباشرة، أو من خلال أذرعه العسكرية في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
وهنا يبرز السؤال حول مصير منطقة شرقي الفرات حيث التواجد الأمريكي المعتمد ميدانياً على حزب العمال الكردستاني عبر واجهته «قسد». فعلى الأغلب لن يستمر هذا التواجد طويلاً، وذلك إذا ما تم التفاهم مع الروس على ملفات أخرى، خاصة ملف أوكرانيا وليبيا، وذلك لأهمية الملفين الأخيرين بالنسبة إلى الأوروبيين الذين تحاول ادارة بايدن إعادة الجسور معهم. وهي الجسور التي ألحق بها ترامب أضراراً فادحة، تجسدت في زعزعة الثقة، حتى وصل الأمر بالفرنسيين، وإلى حد ما بالألمان، إلى التفكير في بناء قوة حماية ذاتية أوروبية، وعقد صفقات تفاهمية مع الروس، لا سيما في ميدان الطاقة، تراعي المصالح الأوروبية في المقام الأول.
ولكن قبل هذا الانسحاب الأمريكي من شرقي الفرات، ستكون هناك مساع روسية لبلوغ صيغة من التفاهم مع الأمريكان بطبيعة الحال للدفع بالعلاقات بين حزب الاتحاد الديمقراطي الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني والنظام – وهي العلاقات التي لم تنقطع في يوم من الأيام – نحو مستويات أعلى وأكثر شمولية تمهيداً لاتفاق نهائي يعيد النظام بموجبه السيطرة على المنطقة مقابل الالتزام بجملة من الوعود والإجراءات التي ستعطي انطباعاً زائفاً بأن النظام قد أقرّ بجانب من حقوق المكونات المجتمعية في المنطقة، خاصة الكرد، وربما القبول بصيغة من الإدارة الذاتية الشكلية التي ستكون في نهاية المطاف وجهاً من أوجه الإدارة المحلية الصورية المعمول بها من جانب النظام، بينما تظل القرارات جميعها، وفي سائر الميادين بيد النظام عن طريق أجهزته الأمنية.
ولا نذيع سراً في هذا المجال إذا قلنا إن هناك العديد من الأحزاب الكردية السورية خارج نطاق المجلس الوطني الكردي مستعدة هي الأخرى للقبول بمثل هذه الصيغة، وذلك إذا ما ضمنت أن النظام سيسمح لها بهامش محدود من التحرك، ووعدها الأخير بتلبية جملة مطالب محلية؛ لأنها في الأساس أحزاب مطلبية، لم تطرح نفسها في وقت من الأوقات بوصفها جزءاً من البديل الديمقراطي الذي خرج السوريون من أجله.
ولكن قبل كل ذلك لا بد أن يكون هناك تفاهم روسي أمريكي حول حجم ومستقبل الوجود الإيراني في سوريا. فالأذرع الإيرانية بعد أن أدت دورها في حماية النظام، لن يسمح لها، وفق ما يُستشف من مختلف المؤشرات، أن تتحول إلى قوة دائمة في الحالة السورية؛ لذلك ستكون هناك جهود دولية مكثفة، سرية وعلنية، للحد من النفوذ الإيراني في سوريا، على أن يتولى الروس عملية ملء الفراغ مقابل الالتزام بالتفاهمات مع الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.
ومن الواضح أن الإيرانيين يدركون طبيعة هذا التوجه، ويتابعون تطوراته الميدانية، لذلك يلجأون إلى التصعيد العسكري من خلال تكليف أذرعهم المسلحة سواء في العراق أم في سوريا لشن هجمات صاروخية وبالمسيّرات على القواعد الأمريكية في البلدين بهدف الضغط على إدارة بايدن، ودفعها نحو الانسحاب منهما قبل ترتيب الأوضاع فيهما بشكل يضع حدوداً للهيمنة الإيرانية المؤثرة في سوريا، وشبه المطلقة في العراق.
وتبقى ورقة حزب العمال الكردستاني التي تعد أداة ضغط إيرانية في الوضعين الكردي والتركي. هل ستعمل الولايات المتحدة في سياق جهودها للحد من نفوذ إيران في كل سوريا والعراق إلى ما يشبه عملية فك الارتباط بين الحزب المعني وإيران بالدفع نحو إعادة إحياء العملية السلمية بين الحزب المذكور وتركيا؛ وهي العملية التي أوقفها المتضررون من الجانبين؟ أم أن الجهود ستتركز بصورة أساسية على عملية فك الارتباط بين الجناح السوري لهذا الحزب، حزب الاتحاد الديمقراطي، وقيادة قنديل المندمجة منذ عقود في المشروع الإيراني؟
أم أن هذه المسألة ستترك للأطراف الإقليمية والمحلية؟ وذلك في سياق منهجية إدارة الأزمة التي يبدو أنها ستكون المعتمدة أمريكياً في المدى المنظور؛ لا سيما في حال عدم التوصل إلى التفاهمات الصعبة مع الجانب الروسي بشأن الملف السوري وبقية الملفات.
المصدر: القدس العربي