جسر: متابعات:
احتلت سوريا صميمَ اهتمام الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب خلال السنوات الأخيرة. وأسفر الصعود المروع لتنظيم “داعش” الإرهابي منذ منتصف عام 2014 عن توحيد جهود المجتمع الدولي بشأن سوريا بصورة لم تهتم بها الانتفاضة السابقة ضد نظام بشار الأسد في البلاد. وفي غضون أسابيع، احتشد أكبر تحالف دولي متعدد الجنسيات في التاريخ لشن هجوم مضاد على تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وبعد مرور خمس سنوات تم تدمير المناطق التي أعلنها التنظيم الإرهابي. ومع أن بيانات هزيمة “داعش” الساحقة كانت سابقة لأوانها بدرجة من الدرجات، فقد تدهورت الجهود السياسية الدولية وتراجع الاهتمام بمكافحة الإرهاب في سوريا منذ تلك الأثناء، كما لو كانت تشير إلى أن المهمة قد انتهت بنجاح تام. وفي واقع الأمر، ومع بدايات عام 2020 الجديد، يبدو أن العالم قد أساء تقدير جهود مكافحة الإرهاب في سوريا على ثلاثة محاور مترابطة.
فمن ناحية، لا يمكن بحال منح تهديدات تنظيم “داعش” الإرهابي صفة الزوال. إذ يحتفظ التنظيم الإرهابي بالآلاف من العناصر المقاتلة مع محافظته على وتيرة شبه ثابتة من شن الهجمات الإرهابية في منطقة شرق الفرات. والأمر الأكثر إثارة للقلق، يبدو أن معنويات التنظيم الإرهابي تكتسب المزيد من الزخم مع ارتفاع الإمكانات في منطقة غرب الفرات، وفي صحراء سوريا الوسطى، وهي المنطقة التي يبدو أن نظام الأسد والميليشيات الموالية له لا تملك القدرة الكافية على احتواء الموقف المتفاقم، ناهيكم من إلحاق الهزيمة الحقيقية بعناصر “داعش” وأنشطتهم هناك. ويتساقط الجنود الحكوميون السوريون ومعهم رجال الميليشيات الموالية صرعى وجرحى جراء الهجمات شبه اليومية التي تشنها عناصر “داعش” المتمركزة على الطريق (إم 20) السريع الذي يمتد بين مدينة تدمر ودير الزور. وفي الأسابيع الأخيرة، تمكن التنظيم الإرهابي من السيطرة لفترة وجيزة من الزمن على إحدى القرى وعدة قطاعات أخرى من طريق (إم 20) السريع.
ورغم توافر الأدلة الواضحة على أن تنظيم “داعش” لا يزال على قيد الحياة وفي حالة جيدة، مع عدم وجود كيان إقليمي محدد خاضع لسيطرة التنظيم، فإن العالم يبدو في حالة لامبالاة متزايدة لدعم وإسناد حملة مكافحة “داعش” في داخل سوريا. كانت تدمير مناطق التنظيم من المهام اليسيرة، لكن ما ينبغي أن يحدث الآن هو التحدي الأكثر صعوبة والأكبر أهمية، إذ إن الأوقات الراهنة هي من أسوأ الأوقات لعدم الاكتراث وغض الطرف عن الأحداث الجارية، حيث إن ذلك يمنح “داعش” الفرصة السانحة والمعززة للبقاء على قيد الحياة وربما التوسع من جديد. ورغم آمال بعضهم، فإن نظام الأسد وروسيا وإيران لا يعتبرون التنظيم من الأولويات ذات الأهمية. ومن السذاجة والخطورة في آن واحد أن نترك قضية “داعش” برمتها للتحالف الموالي لبشار الأسد كي يتعامل معها. واستراتيجية الانعزال هذه قد أسفرت في الصعود الهائل لـ”داعش” واضطرارنا لمشاهدة ما جرى في عام 2014، ولسوف يكرر التنظيم الكرة نفسها مرة أخرى.
ثانيا، وبصورة أكثر إلحاحاً، تغذي لامبالاة وتقاعس المجتمع الدولي إزاء مجريات الأحداث الراهنة في محافظة إدلب الظروف التي لا يزدهر وينتشر فيها المتطرفون والإرهابيون فحسب، وإنما يتطلعون في جرأة شديدة على وراثة عباءة الثورة السورية. إن حماية الحياة البشرية وتعزيز الأعراف الدولية الأساسية، فضلا عن تعزيز المساعدات الإنسانية هي من العناصر بالغة الأهمية في الاستراتيجية طويلة الأجل لمكافحة التطرف العنيف. ومن جهة أخرى، يعد التحرك في الاتجاه المعاكس – والمعروف وضوحا بالتقاعس عن العمل – هو من أبلغ الوسائل الفعالة في تعزيز وتشجيع أعمال التطرف والإرهاب.
وكانت “هيئة تحرير الشام” – الوليد الشرعي لتنظيم “القاعدة” الإرهابي – قد اتخذت موقفا وسطا لا يقدر بثمن، من حيث قيادة بقايا الجهود المناهضة للنظام السوري بينما تحاول في الوقت نفسه تمثيل المستقبل المتطرف المستدام. وجاء قرار الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط وأوروبا ليقطع كل أوجه التعاون والدعم عن الجيش السوري الحر ابتداء من أواخر عام 2017 قد منح “هيئة تحرير الشام” جميع الفرص المنتظرة لبسط المزيد من الهيمنة. بيد أن الصمت العالمي الراهن – مع ذبح المئات من المدنيين، وتدمير عشرات المستشفيات عبر الغارات الجوية الدقيقة، وسقوط العجائز صرعى أعمال العنف في الشوارع، فضلا عن مئات الآلاف الذين يضطرون للهروب سيرا على الأقدام فرارا بحياتهم – يجازف بمنح “هيئة تحرير الشام” المزيد من الزخم الخطابي لاستمالة المزيد من الأنصار في الشارع الثوري السوري.
ولا يكمن جوهر المشكلة السياسية هنا في مجرد التقاعس، بل إنه رفض الاعتراف بأن التطرف العنيف يشكل تحديا اجتماعيا وسياسيا قائما وليس آيديولوجيا فقط. فلقد انضم الآلاف من الرجال البسطاء، من الصغار والكبار، إلى “هيئة تحرير الشام” خلال الشهور الستة الماضية، وليس مرجع ذلك التقارب الآيديولوجي، وإنما لأن “هيئة تحرير الشام” وفرت لهم بديلا أفضل لمقاومة هجمات النظام السوري على إدلب بصورة فعالة. وجاء الفشل التركي – من خلال الرفض أو العجز – في وقف هجمات نظام الأسد وحلفائه ليقوض مصداقية فصائل المعارضة الأقل تطرفا، ويمنح “هيئة تحرير الشام” الميزات الإضافية. ومع حدوث ذلك، فمن شأن أكثر الموالين لتنظيم “القاعدة” تطرفا الحصول على الملاذ الآمن الذي يمكنهم من تحقيق طموحاتهم على الصعيد العالمي. وما لم تتخذ الإجراءات لوقف أعمال العنف، أو على الأقل، طرح نسخ أكثر اعتدالا للمقاومة المسلحة، فسوف تزدهر أوضاع المتطرفين حتما، في وجود أو من دون وجود الأراضي التي يسيطرون عليها، ولسوف يسفر صمتنا المطبق عن ضمان هذه النتيجة عمليا.
ثالثا، أدى غض طرف المجتمع الدولي بصورة متزايدة عن الجوانب ذات الأهمية من الملف السوري إلى منح بشار الأسد وحكومته الطريق المفتوح لقمع الشعب السوري بكل وحشية. ولن يؤدي ذلك إلى تأجيج نيران المعارضة والتطرف في المستقبل، بل إنه منح إيران وتنظيم “حزب الله” الفرصة الذهبية لتعزيز المكاسب المتحققة خلال السنوات الماضية. وفي خضم حملة “الضغط الأقصى” التي تقودها الولايات المتحدة على إيران مع العقوبات الاقتصادية ذات الصلة على تنظيم “حزب الله”، فضلا عن الأزمات المالية والسياسية الراهنة في لبنان، يفترض كثير من المحللين أن إيران و”حزب الله” قد تراجعا كثيرا عن المزيد من استثمار الأوضاع السورية المزرية.
لا يوجد ما هو أبلغ وأوضح من الحقيقة. وفي واقع الأمر، بقي عملاء “فيلق القدس”، ومقاتلو “حزب الله”، وحفنة من الميليشيات الإيرانية على الأرض، ثم انخرطوا في عمليات عسكرية في وسط وشرق سوريا، وفي جنوب حلب. أما في الجنوب السوري، تصدر “حزب الله” المشهد في حملة تجنيد واسعة حشد من خلالها عدة آلاف من السوريين ضمن وحدات جديدة للمقاومة موزعة على أربع قواعد للجيش السوري في درعا. وفي شرق سوريا، تواصل إيران بناء القواعد العسكرية الخاصة بالقرب من البوكمال، حيث سوف يتم إيواء الآلاف من رجال الميليشيات الآخرين مع تخزين الصواريخ الإيرانية القادمة من العراق في الأنفاق. كما تشارك إيران أيضا في حملة دعائية ثقافية كبرى تنشر من خلالها المزاعم والقيم السياسية والدينية واللغوية التي تحرض بها السكان على التحول إلى المذهب الشيعي. وتهدف هذه الجهود الكبيرة والمكلفة للغاية إلى تعزيز الوجود والنفوذ والانتشار الإيراني على المستوى الاستراتيجي الذي لا رجعة عنه في الداخل السوري.
ويطل الإرهاب برأسه عبر صور وأشكال مختلفة، لكن إن كانت هناك قاعدة واحدة ثابتة تنسحب على تعريف التطرف العنيف، فهو أنه يزدهر ويتكاثر وينمو في البيئات غير المستقرة إلى حد كبير. وليس هناك سيناريو واضح متصور لاستقرار الأوضاع في سوريا على مدى السنوات القادمة، فإن الأسباب الأصلية للعنف عميقة الجذور ولا تزال دون تناول كامل، مع سوء الأوضاع كثيرا عما كانت عليه الأمور في عام 2011. ورغم أن المجتمع الدولي يرغب في تصور عالم مثالي يتحول فيه التطرف والإرهاب إلى تحديات هامشية تستلزم جهود الاحتواء والسيطرة المحلية، فإن مثل هذا التصور الحالم ليس مطروحا على الإطلاق في الداخل السوري الراهن. وإن تركنا الحبل على غاربه لأمثال “داعش” و”هيئة تحرير الشام” وإيران ووكلائها لتفعل ما تشاء وقتما تشاء وبالطريقة التي تشاء، فلسوف نعيش حتى نقضم أصابع الندم الشديد على ذلك.
(الشرق اﻷوسط)