أرسل لي عقب ظهوري على شاشة قناة عربية، من حساب يحمل اسماً أول منتشر، وكنية تنسب إلى إحدى المدن الليبية، انتقدت فيها بشدّة قادة المعارضة الذين أرسلوا مقاتلين سوريين إلى ذلك البلد، خدمة لتوجه ومصلحة وطنية لتركيا، بينما كانتْ مدن وبلدات حماة وإدلب تتساقط بيد النظام تباعاً.
وهنا انقل بشكلٍ حرفي عن محادثتي معه، المحفوظة على حسابي في “فيسبوك”، معطياً صوتي له. بداية قال لي إنه يريد أنْ يتحدث معي، وأنّه مقاتل سوري في ليبيا، وأنه قد رآني منذ قليل على شاشة التلفاز. توقعت أنه سيهاجمني، دفاعاً عمنْ أرسلوه، وهم منْ أنتقدتهم في مقابلتي، بينما حاولت أنْ أجد كل المبررات للمغلوبين على أمرهم ممن ذهبوا للقتال في ليبيا، فبادرته على الفور بسؤال اتهامي:” وما أخذك للقتال في ليبيا!؟”، وكنت اعتقد أنني بذلك أضعُ بيني وبينه مسافةً تقيني “سفاهة” محتملة منه، لكنه فاجأني بحديث آخر. كتب فوراً ودون توقف (أرفق صورة المحادثة هنا) رداً على السؤال عما دفعه للقتال في ليبيا:
“أقسم بالله الفقر والجوع والموت
وذل الفصائل إلنا
أنا عندي اربع أخوة شهداء
والله العظيم ما معن ياكلو ( فهمت من محادثتي معه لاحقاً أنه يقصد عائلات اشقائه الشهداء)
ما كان عندي خيار تاني
الفقر بخلي الإنسان يعمل كلشي مشان يطعمي ولادو
مابدي برر
بس هادا الواقع
ماعندي خيار تاني
وسامحني إزا تقلت دم عليك
والله العظيم انا من أوائل الأشخاص يلي طلعوا ضد النظام في (…)
بس نهايتنا كانت مرتزقة
مأجورين
الثورة ذلتنا أخي
الحمدالله”.
أخرسني الرد، وكعاجز، عرضت المساعدة المالية، إذا كان ذلك يساعده على العودة، مرفقاً كل عبارة بالقول “ضمن حدود إمكانياتي المتواضعة”، فكان رده المفاجئ الآخر، قال لي برسالة صوتية هذه المرة، يبرز الصدق من كل حرف فيها، ويخجل من كان فيه ذرة من كرامة :” لا أخي، أنا بموت وما باخد من حدا، أنا صرلي هون كم شهر، ويطلعلي فيهن مبلغ منيح، وفيت ديوني، ويسرت أمور أخواتي، وأبناء الشهداء اللي عندنا.. أنا مال ما بدي، وأشهد الله أني صادق بكل كلمة عم أحكيها.. بس والله ما كنا هيك، ولا كنا مفكرين هيك، أنا من أول الناس اللي تظاهروا وقاتلوا بسورية.. صارت عندي نظرة دونية لنفسي.. إنو ماهيك كان طموحنا.. كان طموحنا الحرية، كان طموحنا سورية تظل بخير.. ونقضي على هالعصابة اللي حاكمتنا.. كانت طموحاتنا كبيرة، سورية جديدة، سوريا خالية من الطائفية، سوريا عظيمة، هيك كان طموحنا، وراحت كل هالآمال وتبددت، بصراحة يعني.. هيك عملوا الناس اللي استلموا أمورنا.. أخي الثورة رفعت ناس وذلت ناس”.
وانقطعت عن الاتصال به، رغم اتفاقنا على معاودة الكلام في وقت آخر، حتى ظهرت حكاية المقاتلين السوريين في أذريبجان، ووقعت في الحيرة نفسها مرة أخرى، ماذا أقول عن هؤلاء؟ منْ المسؤول عن مأساتهم؟ إلى منْ يجب أنْ نوجّه نقدنا ولومنا؟
جربت الكتابة له على حساب الفيسبوك ذاته، متوقعاً أنْ يكون قد هجره بعد عودته المفترضة من ليبيا، لكنّه أجاب بعد ساعات من إرسال الرسالة، ودارت هذه المحادثة:
“أنا: تحياتي
كيف الحال؟ أتمنى تكون بخير
هو: حياك الله
الحمدالله
والله الوضع صعب
أنا باسغراب: ليش لسا ما رجعت؟
هو: رجعت
الآن بسورية في …
أنا: شو الصعب لكان؟ مو قلت صارت الأمور محلولة؟
هو: نصبوا علينا.. أكلوا علينا رواتب ثلاث شهور
أنا:… هيك! بكل بساطة؟ وانتو سكتوا؟
هو: شو نعمل أخي!.. كل قائد فصيل أقوى من التاني.. أقسم بالله يصفوا الواحد بليلة مافيها ضو إذا فتح تمه بحرف.
أنا:… (صمت العاجز)
هو: والله تبهدلنا.. هون بالشمال مافي ولا شغلة ممكن نشتغلها.. كان في شوي شغل بالفاعل هون وهون هلق ماظل.. والولاد والعيل اللي برقبتي، بدهم مصروف.. أنا لوحدي عندي خمس ولاد في منهم صاروا بالجامعة.. وما في شي ما في شي بنوب.. متخيل الحال؟
أنا: (رد العاجز) فيني أبعتلك شوي مصاري
هو: كتر خيرك أخي.. قلتلك أنا بموت وما باخد مصاري من حدا.
أنا: شو رح تعمل؟
هو: سجلت على طلعة على أذريبجان.. وقالولي أنهم وافقولي.. بلكي بتتيسر وياخدوني.. وتنحل مشكلتي).
ما أردت قوله من تسجيل هذه المحادثات الحيّة، هو القول أنّ المقاتلين الذين تحولوا إلى مرتزقة، ليسوا شياطين، وهم ليسوا ملائكة بالطبع، إنهم نحن، السوريين المنكوبين، بقضنا وقضيضنا، لكنْ في واحدة من تجلياتنا الأكثر سودواية.
لا تنحصر قضية تحول الثوار المقاتلين إلى مرتزقة بهم وحدهم، بل تتعلق بنا جميعاً، بتخلينا عنهم، وباستقالة بعضنا من الشأن الثوري والعام، بعد أنْ تورطنا فيه، وورطنا الآخرين، إلى حد لم يعدْ بوسعهم الفكاك من تبعاته.
المسؤولية أيضاً تشمل منْ تنطح لموقع القيادة، وباع الغالي والثمين، بأبخس الأسعار، ووضعها في حسابه، وقد علمت من مصدر مطلع في تركيا، إن عملية تجنيد المرتزقة، هي عملية متسلسلة تبدأ من أعلى هرم المعارضة الرسمية، حيث يتم “تعهيد” قيادات في الائتلاف والجيش الوطني، أعداد محددة ممنْ “يحق” لهم ترشيحهم للمهمات التركية، وهم يتقاضون مبالغ محددة على رأس كل مقاتل، ويتحملون مسؤولية صمته لاحقاً.
المسؤولية أيضاً تشمل الدول الإقليمية الراعية، التي وظفت السوريين في هذا القطاع، بدل دعمهم، وإعادتهم بكرامة إلى أرضهم وبيوتهم، واستغلال “جميلها” معهم بأن تضمن مصالحها الوطنية في هذا البلد، مع الحفاظ على الحد الأدنى من كرامتهم وانسانيتهم.
المسؤولية أيضاً تشمل المجتمع الدولي الذي تخلى عن كل واجباته نحو السوريين، منذ أن ارتكب نظام الأسد أول جرائمه الكبرى بحق هذا الشعب الذي لم يطلب شيئاً سوى الحرية والكرامة.
قبل إعادة الإعمار، وقبل الحل السياسي، لابد من خطة دولية لإعادة تأهيل المقاتلين السوريين، من كافة أطراف الصراع، فالحرب قد خلفت ضحايا تبدو ظاهرياً أنها نجتْ من الموت والإعاقة وغيره، لكنّها في الواقع دمرتهم نفسياً واخلاقياً وقيمياً، وحولتهم عدة مرات، بحيث صار من الصعب اعتبارهم ناجين، والتعامل معهم مثل أشخاص لم يخوضوا هذه الحرب القاسية بكل أهوالها ومآسيها، والحياة في سوريا لن تكون طبيعية في يوم من الأيام مالم يستعدْ هؤلاء إنسانيتهم المفقودة على مذبح الظلم والقهر والإجحاف.
في حديث لاحق مع الشاب السوري، كان يتحدث عن القتال في ليبيا، ورغم رقة حديثه المستمدة من تربيته وبيئته الأصلية، إلا أنني لاحظت كم أنه يسرف في الحديث عن شؤون إنسانية بسيطة ومتواضعة، مثل وجبة الطعام الجيدة التي يحظون به بين جولة قتال مريرة وأخرى، ومثل حديث إنساني تبادله مع أشخاص آخرين في غمرة الحرب، إلا أنّه عندما كان يمر على لحظات الموت والرعب الحقيقية، كان يكتفي بالقول، (وراح إلنا سبع شهداء من الشباب)، أو (لم نفقد سوى اثنين من كتيبتنا)، وعندما كنت أحاول إقناعه بعدم الذهاب إلى أذريبجان، كان يكرر بلا نهاية: (أخي انا اموت وما بخلي ولادي يحتاجوا حدا)، أو (أموت وما باخد من حدا)، وتلوح حتى لمن لا يملك أي خلفية في علم النفس، أنّ هذا الشخص يرغب بالموت حقيقة، يسعى إليه، وقد وصل وعيه إلى أفق مسدود، أفق تزدحم فيه مئات من جثث أقرانه، ويختنق بدمهم وأرواحهم، دون أي ضوء يلوح في آخر هذا النفق.
*ستنشر جسر في الأيام القادمة مذكرات الشاب السوري عن قتاله في ليبيا كاملة.