جسر:مقالات:
التنافس الأمريكي-الروسي حول مناطق النفوذ في سوريا، وحرص كل طرف على استخدام القوى المحلية، وحتى العابرة للحدود بهدف تحاشي التدخل المباشر على نطاق واسع، وتبديد امكانية التصادم، مستمر منذ سنوات عدة؛ وذلك ضمن إطار التوافق العام الذي تم بين البلدين في مرحلة ما قبل التدخل الروسي العلني في سوريا خريف 2015.
وفي أيامنا هذه تبدو المنافسة بأوضح صورها من خلال الجهود التي يبذلها المسؤولون من الجانبين بهدف التحكّم بالورقة الكردية، لتكون، إلى جانب الأوراق الأخرى في الملف السوري، مادة لتسجيل النقاط، وترتيب الأوضاع وفق تصورات كل طرف، استعداداً لصفقة قد تتم مستقبلاً بينهما حول سوريا، بل ربما حول جملة قضايا سواء في المنطقة أم في العالم.
وبناء على معرفة الجانبين بالحساسية التركية تجاه الورقة الكردية بصورة عامة، وورقة حزب العمال الكردستاني على وجه التحديد، يبذل كل منهما الجهود من أجل التوصل إلى حلول تكون مقبولة من الجانب التركي، وذلك في سعي مشترك لكسب الموقف التركي ضمن إطار عملية التنافس العامة حول ترتيب أوضاع المنطقة، وضبط معادلات التوزان فيها وفق ما ينسجم مع استراتيجية كل طرف وحساباته وتحالفاته.
فمع تدخل القوات الروسية إلى سوريا بالتفاهم مع الأمريكيين والإسرائيليين بصورة أساسية، ووسط صمت عربي، وقبول إيراني، وبناء على دعوة نظام بشار وموافقته؛ لوحظ سعي روسي حثيث للاستفادة من القوة العسكرية التي كان يمتلكها حزب العمال الكردستاني عبر الواجهة السورية، حزب الاتحاد الديمقراطي “ب. ي. د.” وهي القوة التي كانت قد دخلت أصلاً بناء على تفاهمات وتوافقات مع النظام، وراعيه الإيراني.
ولكن السعي الروسي لاجتذاب قوات “ب. ي. د.” لم يتوقف؛ وكانت هناك أكثر من زيارة لمسؤولين عسكريين في القوات المعنية إلى موسكو، كما كانت هناك اتصالات من قبل عسكريين روس كبار، بمن فيهم وزير الدفاع، مع مسؤولي القوات المعنية التي تتخذ راهناً اسم قوات “سوريا الديمقراطية، قسد”.
ولكن في الوقت ذاته كان الأمريكان في سعي محموم لاحتواء القوات المعنية، وذلك لتيقنهم بأنهم إن لم يفعلوا ذلك، سيحتويهم الروس الذين سيستفيدون من رغبة أجنحة مؤثرة ضمن الـ “ب. ي. د.” في الانفتاح على النظام، والاستمرار في التحالف مع المحور الإيراني.
وقد استفاد الأمريكان من قوتهم العسكرية، وقدرتهم التنظيمية، ومركزية قرارهم، وقدموا لهم الدعم بالمال والسلاح، فضلاً عن التدريب والتغطية الجوية والمعلومات الاستخباراتية المسموح بها. وتمكنوا من حل العقدة مع تركيا بعض الشيء من خلال تشكيل قوات سوريا الديمقراطية التي تضم نسبة كبيرة من العرب كما تضم السريان أيضاً، ولكن القيادة الأساسية فيها تبقى بيد كوادر حزب العمال الكردستاني، خاصة من السوريين الذين يحرصون على إظهار ولائهم السوري، ويعملون بشتى الأساليب من أجل إيجاد موطئ قدم بين المعارضة السورية، وذلك سواء عبر الحوار مع “منصة القاهرة” أم “منصة موسكو”.
ومع إعلان ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، والهجوم التركي على منطقتي تل أبيض ورأس العين/سري كانيي 2019، اختلطت الأوراق مجدداً، وباتت المعطيات تشير إلى توجه الـ “ب. ي. د.” نحو موسكو، ومن خلالها أعلن عن رغبته في التواصل مع النظام؛ وهو التواصل الذي لم ينقطع عبر العديد من الأقنية في أي يوم، ولكنه أعلن عنه مجدداً بصورة رسمية، وتوجهت وفوده بصورة علنية إلى دمشق، والتقت بمسؤولي النظام، كما استقبل الحزب المعني وفوداً من جانب النظام، وأخرى قريبة من النظام.
ولكن مع تراجع الإدارة الأمريكية عن قرار الرئيس ترامب، ربما لحسابات استراتيجية عسكرية أمنية، لها علاقة بترتيب الأوضاع في المنطقة، خاصة في العراق، بدأت الأمور تأخذ منحى آخر من جهة زيادة عدد القوات الأمريكية ومعداتها، وإعادة عملية انتشارها. وفي الوقت ذاته، حرصت الولايات المتحدة على إطلاق عملية الحوار بين الـ “ب. ي. د.” والمجلس الوطني الكردي، وهي العملية التي ستكون وفق تصريحات المسؤولين الأمريكان أرضية لحوارات مشابهة مع بقية الأحزاب الكردية، وتلك التي تمثل مختلف المكونات المجتمعية في المنطقة.
وتم التوصل في هذا لإطار إلى إصدار وثيقة تحت اسم الرؤية السياسية المشتركة للجانبين، وهي أقرب إلى إعلان مبادئ عامة. وتوالت الحوارات بضغط وتسهيل من الجانب الأمريكي، ولكنها ظلت تدور في حلقة مفرغة، ولم تتطرق إلى الموضوعات الحساسة الأساسية التي من الصعب عقد اتفاق مستدام ناضج من دون معالجتها؛ ويُشار في هذا السياق إلى موضوع الارتباط بين الـ “ب. ي. د.” و حزب العمال الكردستاني، والملفات العسكرية المالية والإدارية، فضلاً عن ملف المعتقلين والمغيبين، وبقية الملفات.
وفي انتظار الوصول إلى اتفاق، أو ربما في إطار جهود كسب الوقت وانتظار المتغيرات الإقليمية والدولية، لا سيما المتصلة منها بنتائج الانتخابات الأمريكية؛ يلجأ كل طرف إلى تقوية أوراقه التفاوضية. فالمجلس الوطني الكردي دخل طرفاً في جبهة السلام والحرية التي تضم قوى عربية وسريانية آشورية. هذا في حين أن “مجلس سوريا الديمقراطي- مسد” ومعه الـ “ب. ي. د.” أصدر وثيقة مع قدري جميل رئيس حزب الإرادة الشعبية في موسكو، وهي تنص على امكانية دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري، مقابل اعتراف النظام بالإدارة الذاتية، وتأكيد ضرورة المحافظة على الوحدة السورية.
ويبدو أن الخطوتين ليستا بعيدتين بهذ الصيغة أو تلك عن المنافسة الأمريكية-الروسية على القوات المعنية وعلى الورقة الكردية، ورغبة كل طرف في التمدد ضمن منطقة شرقي الفرات التي هي في واقع الحال، وإلى إشعار آخر، منطقة نفوذ أمريكية.
وبعد لقائه مع الوفدين (وفد مسد ووفد منصة موسكو) عمل لافروف على تسويق الاتفاق لدى النظام وذلك خلال زيارة الوفد الروسي الكبير برئاسة نائب رئيس الوزراء مؤخراً إلى دمشق، ومن ثم كانت الدعوة لوفد من “جبهة السلام والحرية” لزيارة موسكو.
وهنا وجدت الإدارة الأمريكية، خاصة أنها في مرحلة عصيبة من مراحل الانتخابات الأمريكية، ضرورة إرسال وفد عسكري ميداني في المقام الأول برئاسة جيمس جيفري المسؤول الأمريكي المعني بملفي “داعش” وسوريا إلى منطقة الجزيرة؛ حيث التقى في مدينة الحسكة بوفد من الطرفين الكرديين. كما التقى ببعض المسؤولين العسكريين المحليين، ومع بعض زعماء العشائر والشخصيات المجتمعية. ولكن الاجتماع مع المتفاوضين الكرد لم يثمر عن إعلان الاتفاق النهائي حول جميع النقاط الخلافية، وحول تشكيل “المرجعية الكردية”. هذا رغم التوافق على نسبة كل طرف في المرجعية المعنية. ولكن القضايا المفصلية الأساسية رُحّلت إلى جولات قادمة، الأمر الذي يطرح أكثر من تساؤل حول مدى جدية الـ “ب. ي. د.” في اخذ القرار بوصفه حزبا كرديا سوريا، يعمل بصورة مستقلة عن التبعية التنظيمية العسكرية والأمنية، والمالية والإعلامية لحزب العمال الكردستاني. ويقبل بالمجلس الوطني الكردي شريكاً حقيقياً في الإدارة والموارد والقوات العسكرية.
والاحتمال الأقوى أنه سيحاول كسب الوقت، واستغلال ورقة المبادئ السياسية، وورقة المرجعية ليدخل إلى هيئة المفاوضات ولجنة الدستور، ليزاحم المجلس الوطني الكردي هناك، وتنضم جهوده إلى جهود المعارضة المدجنة التي فُرضت على السوريين بتدخلات خارجية، لا سيما الروسية منها.
وما نُسب إلى جيفري يشير إلى أنه كان واضحاً لمن قابلهم من جهة أن الولايات المتحدة لن تتعامل مع ينفتح على النظام، ويدخل في حوارات موزاية معه، بعيداً عن المعارضة السورية، وعن الجهود السياسية الرامية إلى عملية انتقال سياسي حقيقية.
ولكن هل سيستمر هذا الموقف الأمريكي الذي عبر عنه جيفري وهو الذي يعرف تماماً مدى حساسية الموضوع الكردي، ويعرف أبعاده الوطنية والإقليمية، وحجم الاهتمام الدولي به، إلى ما بعد الانتخابات؟ أم أنه مجرد موقف يندرج في إطار الجهود الانتخابية التي تبذلها الإدارة الحالية من أجل الفوز بولاية جديدة؟
كردياً، تتجه أنظار الكرد السوريين نحو المفاوضات، وهم يرغبون في نجاحها؛ ولكنهم يدركون صعوبتها، وذلك بناء على التجارب الفاشلة السابقة التي كانت مع الـ “ب.ي.د.” هذا الحزب الذي لم يلتزم حتى الآن بأي اتفاق مع الأطراف الكردية السورية، وهذا مرده اختلاف الأولويات، والسياسات والمشاريع، والسبب في ذلك ارتباطه العضوي بحزب العمال الكردستاني.
ولكن في جميع الأحوال تبقى منطقة شرقي الفرات، والجزيرة السورية على وجه التحديد، نواة الوحدة الوطنية السورية الأشمل. فإذا نجحت المفاوضات “الكردية-الكردية”؛ وتم توسيع نطاقها لتشمل المكونات الآخرى من عرب وسريان آشوريين بالإضافة إلى المغيبين عنها من الكرد، فإنها ستخدم من دون شك عقلية البحث عن القواسم المشترك التي توحد بين السوريين على المستوى الوطني العام.
المصدر: القدس العربي