جسر – (جوانا كيّالي)
باتت مشاهد طوابير الانتظار أمراً مألوفاً في سوريا، التي يحكمها نظام اعتاد أن يجعل من هم المواطنين ولقمتهم، ورقة يمارس من خلالها مهاراته في إشغال الشعب عن حقوقه في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة.
وتحولت النقاشات في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، إلى آخر أخبار “ربطة الخبز”، من مواعيد توزيع الخبز وافتتاح الأفران إلى عدد أرغفة الخبز ووزنها، وبات الحديث عن الأزمات المعيشية المتلاحقة والوضع المعيشي الصعب، كل ما يهم الشعب السوري اليوم، في الوقت الذي يقيم فيه النظام “أعراسه الديمقراطية” تشجيعاً منه لملايين السوريين على العودة إلى “حضن الوطن”، في مؤتمرات هزيلة أثارت سخرية القاصي والداني.
وفي تفاصيل الجرح السوري الملتهبة، تشهد عدة مدن سورية ازدحاماً على أبواب الأفران في مشاهد مؤلمة تتكرر يومياً، وسط انتشار كثيف لفيروس كورونا (كوفيد – 19)، دون توفير أدنى إجراءات السلامة والوقاية، من قبل حكومة النظام، لحماية المواطنين من تبعات الجائحة العالمية، ودون معرفة الإحصاءات الرسمية أو الواقعية، وسط ضعف الإمكانات الطبية، ليفتك بهم الجوع والفقر والمرض، كما فتكت بهم حرب النظام على مدى السنوات الماضية، وسط صمت وتخاذل الجميع.
ولم يكن النظام السوري الجهة الوحيدة المسؤولة عن مسلسل عذابات السوريين، مع انتشار منظومة الفساد والاستبداد والمحسوبيات، التي أسسها هذا النظام ووكلاؤه المحليون، وجعلت من أصحاب الأفران شركاء له في ظلم الناس وقتلهم على مهل، في طوابير الذل والقهر والشقاء، فقام أصحاب الأفران بتخفيف وزن الربطة عن الرقم المنصوص عليه تموينياً وهو (1300) غرام للربطة الواحدة لتصبح (1100) غرام، وباتت الأفران تبيع الربطة في دمشق بوزن يتراوح بين (800) إلى (1000) غرام.
وشهد سعر الخبز خلال الأعوام الماضية ازدياداً بشكل مستمر، دون أدنى مراعاة من قبل حكومات النظام المتعاقبة، لمدى تأثير هذا الارتفاع على سعر المادة الأولى في هرم الغذاء، لدى الغالبية الساحقة من السوريين، متجاوزين هشاشة وضعف النسبة الأكبر منهم، فأدت ثلاث قفزات متتالية لسعر الخبز بين عامي 2013 و2016، إلى أن تصل إلى زيادة في سعر الربطة بنسبة تجاوزت 233%، فارتفع سعر ربطة الخبز الواحدة في المرة الأولى من 15 ليرة إلى 19 ليرة، وفي الثانية إلى 35 ليرة، واستقرّ في الثالثة عند 50 ليرة، لتعاود ارتفاعها مؤخراً إلى 75 ليرة، في وقت رفع فيه أصحاب مراكز البيع الخاصة سعر الربطة من 100 ليرة إلى 150، في زيادة تراوحت نسبتها بين 50-100%. كل ذلك وفق إحصاءات وزارة التجارة الداخلية التابعة للنظام نفسه، والتي لم تؤكد أو تنفي أخباراً متداولة بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، عن سعيها إلغاء الدعم الحكومي كاملاً عن مادة الخبز، في مقابل توزيع الحكومة لكتلة الدعم المخصصة لهذه السلعة على الأسر بشكل نقدي.
وكانت حكومة النظام قد لجأت إلى سياسة تقنين في توزيع الخبز على الناس، ليصبح شراؤه عن طريق ما أسمتها بـ”البطاقة الذكية”، التي أصبحت مقصد السخرية ووجه الكوميديا السوداء الأبرز.
وخلال الأشهر الماضية، رُصدت حالات ازدحام شديد أمام الأفران في سائر المحافظات السورية وحتى وقت متأخر من الليل، منها أفران مدينة حلب الرئيسية (محطة بغداد، والزبدية، والفيض، والجابرية)، ترافقت مع إغلاق عدد من الأفران المخالفة لتعليمات مؤسسة المخابز، ما دفع الكثيرين للتعبير عن سخطهم من الحال الذي وصلوا إليه، منهم من يتكلم بصوت هامس: “ننتظر على الدور لاستلام مخصصاتنا من الخبز، ساعات وساعات، وفي أحوال جوية صعبة، قبل أن يأتي واحد مدعوم ويستلم خبزاته ويمشي ع الطاير”، ومنهم من يعلو صوته بالصراخ: “إذا ما سمعوكم هلق إمتى راح يسمعوكم”.
إلى هنا لا تنتهي مواسم الألم والذل والمعاناة، مع تداول ناشطين سوريين صوراً تظهر مئات الأشخاص ينتظمون في طوابير طويلة للحصول على الخبز، وضع بعضهم في أقفاص “تنظيم الدور”، في مشاهد تنتهك أدنى معايير الإنسانية، وسط حالة من السخط والغضب في العاصمة دمشق، والعاصمة الاقتصادية حلب التي شهدت حادثة اعتداء بالضرب المبرح والإهانة لرجل مسن أمام أحد الأفران، حيث ظهر الرجل البالغ من العمر 83 عاماً في صور متداولة وهو ملطخ بالدماء، من شدة الضرب الذي تعرض له، من قبل أحد الشبيحة، كما توفيت خلال أزمة اللقمة هذه، امرأة مسنة كانت تقف على دور الخبز في حي الجابرية عند الفرن العربي، أثناء ساعات الانتظار الطويل، ليستمر مسلسل القهر في زوايا لم يسكنها بعد في قلوبنا.
وما يزال النظام يحتفل بانتصاراته، وينفق بقايا أموال السوريين على متاحف تخلد رموزه، بينما يئن أبناء سوريا تحت وطأة الجوع والفقر والذل والهوان، لم يشكوا يوماً من قلة المواد الغذائية وبالتحديد الخبز، الذي لم يعد خطا أحمر، ويصبح خبزاً مغمساً بالدم في بلد كان يصدّر قمحه وخيراته إلى دول كثيرة في هذا الكوكب.