جسر: متابعات:
في تصريح لجريدة “المدن” غداة إعلان اللجنة الدستورية، اعتبر رئيس هيئة التفاوض نصر الحريري تشكيلها انتصاراً للشعب السوري. ذلك يعاكس تماماً ردود أفعال مناصري الثورة على وسائل التواصل الاجتماعي، والانتقادات الوجيهة التي قدّمها هؤلاء، وفي مقدمها أن اللجنة هي فعلياً قلبٌ لطاولة جنيف إذ تبدأ بسلة اللجنة الدستورية مع توقف نهائي لسلة انتقال السلطة، حيث كان يُفترض في الأصل تشكيل اللجنة وقيادتها سورياً بعد تشكيل هيئة حكم انتقالي. ذلك فضلاً عما بات معروفاً لجهة قواعد التصويت في اللجنة، وهي تمنح وفد الأسد إمكانية إسقاط أي اقتراح حتى لو نال موافقة ممثلي المعارضة وممثلي المجتمع المدني، من دون أن ننسى وجود موالين صريحين للأسد في وفد المجتمع المدني.
كان الأمر مفهوماً ومنطقياً أكثر لو أن هذه اللجنة سُمّيت هيئة تأسيسية، بصرف النظر عن الاعتراضات عليها. الهيئة التأسيسية عادة تضع التوافقات السياسية، ليتولى خبراء حقوقيون تحويل تلك التوافقات إلى نصوص دستورية. بمعنى أن تشكيل اللجنة بشكلها الحالي لا يقلب طاولة مسار جنيف فقط، وإنما يقلب المعايير كلها، فيوكل للجنة القيام بمهمة قائمة على فراغ هو غياب التفاهمات السياسية، فوق كونها لجنة غير متخصصة على الصعيد القانوني.
لكن نعرف جميعاً أن كافة الاعتراضات لن تثني وفد المعارضة عن المشاركة، وما دام الحريري قد اعتبره نصراً فهذا كافٍ من وجهة نظر المعارضة، وعلينا الاقتناع بذاك النصر مثلما على جمهور الممانعة الاقتناع بالانتصارات الإلهية التي يحققها قادته. ربما علينا أيضاً التحلي بحسن الظن، واعتبار وفد المعارضة واعياً للعبة كلها، وهو ذاهب لتسجيل نقاط سياسية في مرمى الأسد على مرأى من العالم أكثر من قناعته بجدوى العملية كلها.
الاعتبار الأخير يجعلنا نركز على وفد المعارضة نفسه، وعلى قدرته على تقديم عرض مقنع يتفوق فيه بالنقاط على وفد الأسد، على افتراض أنه ليس لدى المعارضة ما تخسره بمشاركتها. فكما نعلم، من خلال تفحص الأسماء الموجودة في الوفد، هناك ميول ومشارب مختلفة لديها، ومن الصعب القول بأن هذه الأسماء التي تمثل كتلاً متباينة وأفراداً غير منسجمين لها تطلعات مشتركة فيما يخص الدستور الجديد، مرة أخرى بصرف النظر عن كفاءاتها الحقوقية أو السياسية. بينما على مقلب وفد النظام ثمة مركزية قرار لا شك فيها، وهذه المرجعية ستكون حاضرة طوال الوقت لتوجيه الوفد وإظهار وحدته، ولا ننسى أعضاء في قائمة المجتمع المدني يخضعون لتوجيهات المرجعية ذاتها، أي أن نصف أعضاء اللجنة تقريباً خاضعون لقرار موحد. بل سيكون من صالح وفد المعارضة، في عملية غايتها الأصلية هي المماطلة والتسويف، أن إقرار أي اقتراح يتطلب موافقة 75% من الأعضاء، فلو كان إقرار الاقتراحات على قاعدة النصف زائد واحد من المرجح أن ينجح وفد الأسد بتمرير كل ما يريد.
استباقاً لتشكيل اللجنة كانت سلطة الأسد قد فرضت شرطين يتضح أن المبعوث الأممي قد وافق عليها، أولهما عدم وضع إطار زمني لعمل اللجنة، ما يعني إبقاء الزمن مفتوحاً للمماطلة، وإذا كان تشكيلها قد استغرق قرابة سنة ونصف السنة فإن جلساتها قد تستغرق أضعاف تلك المدة. أيضاً وافق المبعوث الدولي على قيادة سورية للعملية، تم إخراجها شكلياً برئاسة مشتركة للجنة، بحيث يستطيع وفد الأسد التملص من أي تدخل دولي حقيقي لدفع عملها، أو من أي مشورة دولية حقوقية.
شرط عمل اللجنة تحت السيادة السورية لا يتعلق فحسب بجلساتها، بل يتعلق بالإجراءات اللاحقة لإقرار نتائجها وهذا ما لا تملكه سوى سلطة الأسد وفق موافقة الأمم المتحدة. إلا أنه فوق كل ذلك شرط على نص الدستور القادم، وقد يبدو في مرتبة البديهيات أن ينص أي دستور على مبدأ السيادة وعلى وحدة وسلامة أراضي البلد. في حالتنا هذه إشارة سياسية، ولا ننسى تأكيد ثلاثي أستانة عليها، وهي موجهة للأكراد تحديداً، ولا نكشف سراً بالقول أن وفد الأسد ووفد المعارضة متفقان عليها. المشكلة تحت هذا المبدأ، إذ بسببه وبسبب المخاوف المتعلقة به ستُستبعد نهائياً إمكانية إقرار حكم لامركزي، وسيُستعاض عنه بتوسيع الإدارة المحلية الحالية “الشكلية أصلاً”، وهذا التوسيع مقترح إيراني قديم.
من هذا المدخل، وبذريعة التخوف من انفصال كردي، سيُعاد تدوير الحكم المركزي بما عناه دائماً وما سيعنيه لاحقاً من إعادة تدوير الاستبداد. وبذريعة التخوف من التقسيم ستُحرم غالبية السوريين من حقها في المشاركة المباشرة في السلطة، ليبقى شكل الأخيرة هرمياً مركزياً لا ينتج الاستبداد وحده، وإنما مبدأ اللاعدالة بين مختلف المناطق السورية بصرف النظر عن توزعاتها الإثنية أو الاجتماعية. المشكلة ليست في سعي وفد الأسد إلى إنتاج النظام القديم، هي في أن المعارضة لم تقدّم من قبل تصوراً لنظام جديد، في حال لم نأخذ في الحسبان وقوع قسم معتبر منها تحت التوجهات والهواجس التركية المتعلقة بالملف الكردي.
حتى على صعيد قمة الهرم، لم تقدّم المعارضة من قبل تصوراً لنظام مختلف، وليكن التحول من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني. وقد رأينا طوال عقود مساوئ النظام الرئاسي، في حين أن الثقافة السائدة إلى الآن تحمّل رأسه مسؤولية فردية مفادها أنه فوق الدستور، ورأينا معارضين لا يرون المشكلة حتى في دستور الأسد نفسه، وإنما في وجود قوى فوق الدستور. هذه الثقافة المشتركة بين هيئات المعارضة وقسم من جمهور الثورة لا تساعد على الانتقال إلى أطروحات دستورية جديدة من شأنها إقامة نظام يمتلك في الأصل آليات لتوزيع السلطة، فلا يُنتظر من مالكها الحصري حسن التصرف بها.
في موضوع متصل بالقوى الخارجة عن الدستور، لا معنى لأي تغيير أو تعديل لا يلحظ وضعية الجيش، ومن المؤكد أن وفد الأسد سيتمسك تحت العديد من الشعارات بحساسية هذا الملف واتصاله بالدفاع عن البلاد. مثلما سيتمسك وفد الأسد بالحكم المركزي سيتمسك بمركزية السيطرة على الجيش، والعبرة هي في وجود معارضة شجاعة متخلصة من حساسية الموضوع، وقادرة على المطالبة بإعادة هيكلة كاملة لقوات الجيش، من دون الوقوع تحت ابتزازات من نوع وجود جيش قوي بذريعة الجولان المحتل والتصدي لإسرائيل فقد شاهدنا التنفيذ العملي لهذه الشعارات خلال السنوات الماضية.
من المتوقع مثلاً أن يزايد وفد الأسد على وفد المعارضة في قضايا هامشية من نوع الفقرة التي تخص اعتماد الإسلام كأحد مصادر التشريع، رغم أن الأسد الأب والابن قد اعتمدا هذه الفقرة في دستوريهما. الغاية من اللعب على هذا التفصيل وتفاصيل مشابهة إظهار سلطة الأسد علمانية مقابل معارضة إسلامية، مع ترجيح وقوع وفد المعارضة في مثل هذه المطبات تحت ضغط إسلاميين موجودين في الوفد.
يمكننا طرح أمثلة مغايرة، من نوع قدرة المعارضة على الإصرار على منع بشار من الترشح وفق الدستور الجديد، بالإصرار على عدم أهلية كل الذين وُجهت لهم اتهامات بارتكاب جرائم حرب من قبل منظمات حقوقية دولية، سواء أكانوا ضمن سلطة الأسد أو من مختلف الفصائل والميليشيات الأخرى قبل خضوعهم للمحاكمة، مع معرفتنا المسبقة بأن مثل هذا الاقتراح سيسقط بالتصويت، ولن ينال رضا الدول الراعية للعملية كلها. يمكننا أيضاً طرح قيام وفد المعارضة، مع استشارة قانونيين مختصين، بإعداد مسودة دستور عصري قائم على المساواة واحترام لا لبس فيه لحقوق الأفراد والجماعات، مع المعرفة المسبقة بعدم موافقة الأسد عليه.
خلاصة القول أن المعارضة ذاهبة إلى جلسات اللجنة الدستورية رغماً عن اعتراضات غالبية المؤيدين للثورة والتغيير، وبحكم هذا الواقع تملك فرصة تقديم عرض مشرّف تستغل به المناسبة التي يُراد بها فوق التسويف إظهار تهافتها. مع أن الدقة تقتضي منا عدم الجزم بامتلاكها خيارين، إذ ربما كان مجرد القبول بالذهاب دلالة على التهافت.
المدن 28 أيلول/سبتمبر 2019