البحرية البريطانية اتخذت موقعاً خاطئاً لكمينها إلى الجنوب الغربي من الجزيرة، بعدما افترضت أن السفينتين الألمانيتين ستتوجهان إلى الجزائر لمعاودة قصف الموانئ التي تستخدمها البحرية الفرنسية لنقل الجنود من شمال أفريقيا إلى البر الأوروبي. إلا أن السفينتين الألمانيتين، وعلى الضد من أوامر القيادة في برلين، توجهتا شرقاً، إلى اسطنبول.وأثار ذلك الهلع في حكومة “الاتحاد والترقي”، ولدى الوزير الأعظم سعيد حليم، خوفاً من أن يترتب على ذلك دخول السلطنة الحرب إلى جانب ألمانيا، بشكل متعجل. إذ أنه وقبل 3 أيام فقط، كانت السلطنة قد عقدت تحالفاً “سرياً” مع ألمانيا، ما يضمن للسلطنة الحياد في الحرب بين النمسا/هنغاريا وصربيا.
أس-400 أم أف-35؟
قد يشبه العالم اليوم ما كان عليه قبيل الحرب العالمية الأولى، بالمعنى الجيوسياسي. الأحلاف الكبرى تتفكك لصالح وحدات صغيرة ميّالة للتصارع على خلفية تفشي النزعة القومية فيها. عدا ذلك، فأوجه الخلاف لا يمكن حصرها.
اليوم يتصاعد الخلاف بين أنقرة وواشنطن، على خلفية صفقة تركية لشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية أس-400، التي تراها واشنطن خطراً يُهدد صفقة أخرى مع أنقرة لشراء طائرات أف-35 الأميركية القتالية.
قبل أيام، أوقفت واشنطن تسليم الدفعة الأولى من أف-35 ومتعلقاتها إلى أنقرة، بعدما رفضت تركيا عرضاً أميركياً ببيعها منظومة باتريوت للدفاع الجوي، بدلاً من أس-400، لأنها أغلى ومن دون ضمانات. بل إن أنقرة، قرّبت موعد استلام أس-400، وقالت إنها قد تطلب قريباً شراء منظومة أس-500 من موسكو.
إلا أن أنقرة مُشارِكة تقنياً في صناعة طائرات أف-35، وهو ما تهدد واشنطن بإيقافه أيضاً. وبدأ الجيش الأميركي البحث عن موردَين بديلَين ليحلا محل الشركات التركية التي تصنع أجزاء رئيسية من أف-35، وكذلك عن شريك جديد لاستضافة الطائرة وعن مستودع المحركات الأوروبي الذي كان مقرراً بناؤه في تركيا.
إذ تخشى واشنطن، من أن حيازة أنقرة لمنظومة الصواريخ الروسية، سيُتيح لموسكو كشف أسرار تتعلق بحلف الناتو وطائرات أف-35، رغم أن تركيا تعهدت باستلام كامل لمنظومة أس-400، والتحكم فيها ببرمجيات مُصنّعة في تركيا.
التاريخ يعيد نفسه؟
في واحدة من أكثر الكليشيات ترداداً، يُنقل عن كارل ماركس قوله إن “التاريخ يعيد نفسه مرتين، واحدة كمأساة والأخرى كمهزلة”. إلا أن كلام ماركس، منتزع من سياقه، مرتين. ففي المرة الأولى، ينقل ماركس الجزء الأول من مقولته عن هيغل، معلمه الأسبق وخصمه الفكري اللدود، كما جاء في “الثامن عشر من برومير”: “هيغل يلاحظ في مكان ما، أن كل الحقائق التاريخية العظيمة، والشخصيات، تظهر مرتين”. وفي المرة الثانية، يكمل ماركس بالقول إن هيغل نسي إضافة: “في المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة”. ويسرد ماركس، لتوضيح فكرته الساخرة، مجموعة من الأمثلة الفرنسية؛ لويس بلان وروبسبير، ولويس فيليب ونابليون بونابرت..
لكن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين، كما لا يمكن الاستحمام بماء النهر ذاته مرتين. تكرار التاريخ نفسه مرتين؛ ملهاة ومأساة، قد يفيد جمالياً في حصر الانتباه للمتشابهات/المتناقضات ضمن مقاربة زمنية قد تطول أو تقصر. فالمآسي والملاهي، لا تتوقف عن التتابع والتكرار، ولا يكاد اليوم يشبه البارحة، إلا ضمن سياق المقاربة، وتفسيرها.
فهل ما يحدث اليوم في تركيا في قضية أس-400 أو أف-35، مشابه لما حدث قبل أكثر من 100 عام في قضية البارجتين الحربيتين العثمانيتين “الرشادية” و”السلطان عثمان الأول” المُصنعتين في بريطانيا، مقابل السفينيتن الألمانيتين جيوبين وبرسلاو؟
لا تبدو الإجابة يسيرة، كما لا يمكن للمهزلة ولا التراجيديا وصف أي منهما.
الرشادية والسلطان عثمان
إتفاق 2 آب 1914 مع السفير الألماني في اسطنبول، طبخه وزير الحرب أنور باشا، أحد أقوى رجال “لجنة الاتحاد والترقي” CUP، والذي سرعان ما سينقلب على الوزير الأعظم سعيد حليم في أيلول، لينهي بذلك المرحلة القلقة التي أعقبت إطاحة “الاتحاد والترقي” بالسلطان عبدالحميد، في العام 1909.
أنور، شديد الطموح. كان قد دبّر، بالتعاون مع وزير الداخلية طلعت باشا، عرضاً للسفير الألماني لإقناعه بحماية ألمانية لتركيا عشية إندلاع الحرب الأولى، في وجه المتربصين بها، أي إيطاليا واليونان وروسيا ومقدونيا. إذ تعهد أنور وطلعت تسليم برلين البارجتين الحربيتين “الرشادية” و”السلطان عثمان الثاني”، فخر الصناعة البريطانية، وأكثر البوارج المدرعة تجهيزاً بالمدافع حتى ذلك الوقت. إلا أن السفينتين المصنوعتين لصالح السلطنة، والمدفوع ثمنهما بالكامل من تبرعات المواطنين والمجدول تسليمها في 27 تموز 2014، لم تصلا.
أدميرال البحرية البريطانية الأول حينها، ونستون تشرشل، كان قد طلب من حكومة جلالتها احتجاز السفينتين، وعدم تسليمهما للسلطنة لاحتمال وصولهما إلى يد ألمانيا، ما سيعني انتكاسة خطيرة في التوازن البحري. في 31 تموز، حصل تشرشل على مباركة الحكومة للخطوة، وفي 3 آب، أبلغت بريطانيا السلطنة رسمياً، برغبتها في نقل عقود الشراء لحكومة جلالتها، وتعويض السلطنة عن خسائرها.
المستشار الألماني رئيس الوزراء، كان قد أبرق للسفير في اسطنبول، بألا يوقّع على أي اتفاق ما لم تقدم السلطنة اسهاماً مادياً أو تصرفاً ذا شأن ضد روسيا، في معارضة مخفية لرغبة الأمبراطور وليم الثاني، الذي طلب استكشاف طلب أنور باشا بالتحالف. ومن شبه المؤكد اليوم، بحسب دايفيد فرومكين في كتابه “سلام لانهاء كل سلام”، أن أنور وطلعت، كانا يعرفان، ليلة 1 أب 1914، أن بريطانيا قد استولت على “الرشادية” و”السلطان عثمان الأول”، ومع ذلك فقد عرضاهما على السفير الألماني المتشكك في جدوى التحالف مع السلطنة، ما سرّع في التوقيع على الاتفاق السري في اليوم التالي.
أنقرة، موسكو وواشنطن
انعدام الثقة بين واشنطن وأنقرة ليس وليد صفقة أس-400، بل يتعلق بقضايا متفجرة رافقت الحرب السورية، في ظل دعم أميركا لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية، ذراع “حزب العمال الكردستاني” العسكري في سوريا. وتركيا ترى أن تحالف واشنطن مع منظمة تصنفها إرهابية، هو أمر غير صائب بين الدولتين الحليفتين. بعض السلاح الأميركي المُسلّم للقوات الكردية في سوريا، وجد طريقه إلى مقاتلي “العمال الكردستاني” في تركيا. وإذا كانت أنقرة تنظر للموضوع من زاوية أمنها القومي، فهي ترى في إنشاء كيان شبه مستقل لأكراد سوريا، معادٍ لها بقيادة “العمال الكردستاني”، مقدمةً لتقسيم تركيا ذاتها، وتدخلاً في قضاياها الداخلية.
لذا، تبدو المناورة التركية بين السلاحين الروسي والأميركي، محاولة لوقف دعم واشنطن لـ”وحدات الحماية”، وتفعيل المنطقة الآمنة بإشراف تركي. في مقابل عدم تحقيق ذلك، هناك وعد روسي بتفعيل اتفاقية أضنة بين أنقرة ودمشق، بما يضمن لتركيا ملاحقة “العمال الكردستاني” داخل الحدود السورية.
العلاقة بين أنقرة وموسكو، لا تقل تعقيداً، وكانت قد وصلت خلال السنوات الماضية إلى احتمال نشوب حرب مباشرة بينهما بعدما أسقطت تركيا طائرة سوخوي حربية روسية، نهاية العام 2015، اخترقت مجالها الجوي وهي تقصف مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية. ورغم دخول تركيا لاحقاً في مسار أستانة الروسي للحل في سوريا، إلا أن ضغط الكرملين لا يكاد يتوقف؛ من القصف المتواصل على إدلب، إلى دعم “وحدات حماية الشعب” في مدينة حلب وتل رفعت.
تركيا، التي وجدت نفسها عالقة بين واشنطن وموسكو خلال السنوات الماضية، كانت قد عاشت ظروفاً أكثر غرابة عشية الحرب العالمية الأولى. فالسلطنة، وقبيل توقيع اتفاق التحالف مع ألمانيا، كانت تعيش أسوأ كوابيسها، بعدما رفضت فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، وحتى روسيا التحالف معها، لإدراك واسع بأنها ستكون عبئاً ثقيلاً في الحرب الأوروبية، وهي المتقادمة في التقانة والمتأخرة عسكرياً. كما أن انطباعاً عميقاً بأن السلطنة ستتفكك خلال هذه الحرب، جعل الجميع تواقاً لأخذ حصة فيها، وهي الموصوفة بأدبيات تلك المرحلة السياسية، بأنها امبراطورية متخيلة تنتمي للقرن السادس عشر، وقد حان وقت تجزئتها إلى مكوناتها الإثنية والقومية الأصلية.
جيوبين وبرسلاو
بعد توجههما إلى اسطنبول، توقفت البحرية البريطانية خارج مضيق الدردنيل بانتظار خروج السفينتين بعد افتراض أن السلطنة ستطردهما نظراً لموقفها الحيادي في الحرب. إلا أن انتظار الأسطول البريطاني قد طال، ولم تخرج جيوبين وبرسلاو الألمانيتان. بل أعلن الوزير الأعظم سعيد حليم، كذباً، في 11 آب 1914، شراء السلطنة لهما ودفعها لقاء ذلك 8 ملايين مارك.
إعلان الوزير، المفاجئ للجانب الألماني، جاء لتهدئة الإنجليز، ولإيجاد مخرج للسفينتين الألمانيتين، من دون توريط تركيا في الحرب. واستُقبل الإعلان بحرارة في الشارع العثماني، المحتفل بالصديق الألماني الذي باع السلطنة سفناً حربياً بعدما امتنع الإنجليز عن ذلك. في 14 آب، خاطب السفير الألماني في اسطنبول بلاده، بألا خيار آخر أمامهم. جمال باشا، وزير البحرية، تسلّم السفينتين رسمياً، وأعلن الضابط الألماني، قائد الأسطول الألماني في البحر المتوسط، قائداً للأسطول العثماني في البحر الأسود، وارتدت طواقم السفينتين زي البحرية العثمانية.
نهاية آب 1914، أرسل المبعوث الحربي البريطاني إلى السلطنة، برقية إلى لندن: “اسطنبول تحت السيطرة الألمانية”، فأمر تشرشل الأسطول الانجليزي بإغراق السفن التركية الخارجة من الدردنيل، إن شوهدت برفقة جيوبين وبرسلاو. لكن أنور باشا، سرعان ما أمر بإغلاق الدردنيل، وزرعه بالألغام البحرية، ما شكّل إعلاناً بدخول تركيا الحرب الأولى.
أس-400
مع الإصرار الأميركي على دعم “وحدات الحماية”، بدأت أنقرة بنقل بَيضها من سلة أميركا إلى سلة روسيا. الإنقلاب الفاشل في العام 2016، ترك أثراً لا يمحى من التوتر بين أنقرة وواشنطن التي تستضيف فتح الله غولن، زعيم جماعة “الخدمة” التي تتهمها تركيا بالوقوف وراء الانقلاب. أنقرة وموسكو، وجدا، عبر أستانة، أرضية لتسوية خلافاتهما في سوريا، رغم ما تتعرض له من نكسات على الأرض أحياناً. في حين أن اتفاق منبج، بين أميركا وتركيا، لم يجد طريقه للتنفيذ رغم مرور عامين على التوصل إليه.
إلا أن لأنقرة، مخاوفها أيضاً، خارج إطار المسألة الكردية في سوريا. ففي محاولة الانقلاب في 2016، سيطر الطيران التركي المتمرد على الأجواء، وسط عدم قدرة منظومة ستيلا للدفاع الجوي على اسقاطه، لتوافقه معها. أي أن الدفاع الجوي في هذه الحالة لا يرى الطيران كهدف معادٍ، كما تقول “الفورين بوليسي”. وهذا ما يجعل ذلك من منظومة أس-400 سلاحاً فعالاً لأنقرة.
كما أن أس-400، قد تقدم لأنقرة فرصة للحماية في وجه هجوم صاروخي أو بطائرات أف-35، قد تشنه أطراف متحالفة مع أميركا، كالسعودية. لذا، قد يبدو في هذه اللحظة، وكأن تركيا ليست في أمسّ الحاجة إلى أف-35، وسط أنباء عن صعوبات مالية قد تحول دون وفائها بكامل التزاماتها المالية تجاه الصفقة.
في هذه اللحظة، قد يبدو وجيهاً الاستدلال بأن أنقرة قد تستخدم أس-400 كذريعة لإلغاء صفقة أف-35، بعد إدراكها بأن شروطها السياسية، التي تفرضها واشنطن، أكثر تعقيداً مما تحتمله تركيا. فالخطر الأكبر حالياً، بالنسبة إلى تركيا، لم يعد روسيا.
لو كان ماركس بيننا اليوم، فهل هتف: “ديجافو!.. لقد رأيت ذلك سابقاً”.