جسر: متابعات:
على الرغم من أن اليوم الأول من الجولة الحالية للمفاوضات الروسية التركية في موسكو ، كان قد ترافق مع عودة الدوريات الروسية التركية المشتركة في الشمال السوري ، مما دفع بعض المواقع الروسية لتصوير الأمر ، بأنه إشارة إلى الجو الإيجابي ، الذي يسيطر على المفاوضات . إلا أن هذه الجولة انتهت إلى الفشل ، كما سابقاتها ، ولم يصدر عن المفاوضين بيان مشترك ، بل أصدرت وزارة الخارجية الروسية في ختام المفاوضات بياناً قالت فيه ، بأن روسيا وتركيا أكدتا التزامهما الإتفاقات بشأن سوريا . وكان وزير الخارجية التركي قد استبق فشل المفاوضات ، وأعلن خلال النهار ، أن الرئيسين التركي والروسي قد يلتقيان خلال الأيام القريبة القادمة ، إذا لم تتوصل المفاوضات في موسكو حول إدلب إلى أية نتيجة.
وعلى الرغم من أن موسكو تشارك في هذه المفاوضات كشريك مباشر في المقتلة السورية ، ومتهمة من قبل الطرف الآخر، إلا أنها لا تزال تصر على أنها وسيط في إدلب بين نظام الأسد وأنقرة . فقد كتب في هذا السياق موقع “Lenta.ru” الإخباري الروسي مقالة بعنوان “معركة بين الطغاة” ، قالت فيها بأن الأسد يريد تنظيف سوريا من الإرهابيين ، لكن تركيا تعرقله ، فإلى أي جهة تنحاز روسيا؟ وتساءلت صحيفة “NG”، التي تدعي الإستقلالية ، إلى أي مدى سيذهب الأسد وإردوغان في الجولة الجديدة من الصراع ، وتقول بأن الحرب بين “حلفاء” الكرملين ، تضعه أمام امتحان جديد .
أما صحيفة الكرملين “VZ” ، وبمناسبة تطابق انطلاقة جولة المفاوضات الجديدة مع افتتاح مؤتمر “الشرق الأوسط في عصر التغيير : نحو هندسة استقرار جديد” ، الذي ينظمه “نادي فالداي الدولي للحوار” ، فقد نشرت مقالة بعنوان “الشرق الأوسط مستعد أن يعهد بمصالحه لموسكو فقط”. قالت بأنه في اليوم ، الذي بدأت فيه المفاوضات الروسية التركية في موسكو، انعقد أيضاً مؤتمر نادي “فالداي”حول الشرق الأوسط ، فجمعت موسكو السياسيين والبوليتولوجيين من كل العالم العربي. وبينما كان الدبلوماسيون يحاولون نزع التوتر، الذي برز بين موسكو وأنقرة، كان البوليتولوجيون يناقشون التوجه الجديد المتمثل بالطلب المتزايد للمساعدة من روسيا ، التي أصبحت في المنطقة “قوة حفظ السلام الأكثر نجاحاً” . إلى جانب الأسماء الكبيرة العاملة في مراكز أبحاث عالمية معروفة في شؤون الشرق الأوسط ، التي شاركت في المؤتمر ، لم تكن أسماء بعض الممثلين العرب في المؤتمر تشهد على مصداقية “قوة حفظ السلام” هذه وحياديتها، مثل وزير خارجية الجنرال خليفة حفتر في ليبيا، والنائب في البرلمان اللبناني عن التيار الوطني الحر ومستشار الرئيس عون أمل ابو زيد، الذي منحه بوتين وساماً منذ أشهر. كما لم تكن تدعم هذه المصداقية الطروحات ، التي نقلتها الصحيفة عن المشاركين في المؤتمر أو تحدثوا على منصته، إذ اتهموا الغرب بالوقوف وراء كل مشكلات الشرق الأوسط ، بما فيها سوريا ، ونسبوا إلى روسيا دور الوقوف بوجه تخريب الغرب هذا . وجاء الرد صاعقاً من أحد قراء مقالة الصحيفة ، الذي قال “لو تبرز أحد في مدخل مبنى في روسيا، لكنتم اتهمتم الغرب بذلك”.
منذ بداية المشاركة الروسية في المقتلة الروسية ، لم يكن إعلام الكرملين ، خاصة في بداية هذه المشاركة ، يقتصد في توجيه النقد ، والنقد الجارح لقيادة النظام السوري وجيشه ، بل ووصف هذا الجيش في أحيان كثيرة بالعصابات المتناحرة و”الشبيحة”، وألقى اللوم عليه في مقتل الجنرال الروسي فاليري أسابوف العام 2017 . لكن مثل هذه الإنتقادات والتجريح غابت منذ فترة طويلة عن المواقع الروسية ، ولم تعد تظهر سوى نادراً، إما لتقدم العسكريين الروس الكبير في إعادة بناء هذا الجيش ككل، وإما لتقدمهم في بناء وحداتهم “الخاصة” داخل هذا الجيش ، مثل الفيلق الخامس أو “قوات النمر” وميليشياتهم الخاصة أيضاً. لكن مع اندلاع معركة إدلب الأخيرة عادت مثل هذه الإنتقادات لتظهر من جديد ، بل ظهرت اتهامات للقيادة السورية بتقصد قتل العسكريين الأتراك ، لتوريط روسيا في المواجهة مع تركيا، كما جاء في صحيفة الفاشيين الروس”ZAVTR” على لسان الكاتب الفلسطيني الروسي رامي الشاعر ، وعلى لسان صحيفة القوميين الروس “SP”.
الصحيفة الأخيرة كتبت تحت عنوان”نحن سنجيب عن سوريا : قتل الجنود الأتراك كان رسالة إلى الكرملين” ، وعنوان إضافي : دمشق تعترف لماذا يتقصدون قتل عسكريي إردوغان” . تستند الصحيفة إلى مقالة ظهرت في جريدة “الوطن” السورية حول معركة إدلب ، تُعفي فيها الأسد والكرملين من الإلتزام باتفاقيات سوتشي حول إدلب ، لأنها “لم تعد أولوية” . بل اصبح طرد الأتراك برأي “الوطن” هو الأولوية ، لأن موسكو ودمشق ما عادتا تتسامحان مع النظام التركي ، وبدأتا العملية الواسعة ضد أنقرة ، التي لا تستطيع شيئاً حيال ذلك ، وتحاول الإتفاق مع موسكو ، لكن من المستبعد أن تتمكن من ذلك ، لأن المفاوضات في أنقرة أثبتت أنها مفاوضات فاشلة .
ينقل الكاتب الروسي كلمات الصحيفة السورية بدهشة كبيرة من هذه الثقة بالعجز التركي حيال ما يجري في الشمال السوري، ومن التحدث باسم موسكو والسعي لنسف المفاوضات مع تركيا ، ويقول بأن المقاطع الأخيرة من مقالة “الوطن” تؤكد أن الأسديين (كما يسمي عسكريي النظام السوري) قد تعمدوا قتل العسكريين الأتراك ، وأن مقتلهم كان رسالة ، بأن الوجود التركي لم يعد مقبولاً . وينقل عن العسكريين الروس نفيهم تنسيق الأسديين معهم “لأول مرة” ، ويستنتج بأن التكذيب الروسي للرواية التركية بشأن تقديم معلومات للجانب الروسي عن تحرك القوات التركية ، يصبح مناقضاً لحقيقة ما جرى فعلاً، كما ترويه الصحيفة السورية الرسمية ، على قوله.
من جهته ، وفي مقالته في صحيفة الفاشيين الروس “ZAVTRA” ، يتفق رامي الشاعر مع إستنتجات الكاتب الروسي أعلاه ، ويعتبرها كاذبة تأكيدات القيادة العسكرية السورية بأن عملياتها تمت بالتنسيق مع العسكريين الروس ، لأن مثل هذه التأكيدات تفترض أن الأخيرين كانوا على علم بالضربات ، التي تم توجيهها لمراكز المراقبة التركية، بل وشاركوا فيها كذلك. ويقول بأن العسكريين الأتراك هم برأيه شركاء روسيا في القضاء على النزاع في سوريا وليسوا أعداء لها ، ولذلك أثارت تأكيدات القيادة العسكرية السورية ردة فعل سلبية شديدة من جانب القيادة التركية.
الشاعر ، الذي يؤمن إيماناً عميقاً، بأن روسيا وترويكا أستانة ككل ليست قوى احتلال ، بل هي قوى تعمل لصالح الشعب السوري ، ووحدة الأراضي السورية وسيادتها ، يتهم القيادة السورية بأنها هي المسؤولة أيضاً ، وليس تركيا وحدها، عن العجز في التمييز بين الإرهابيين ، وبين الفصائل التي تقاتل دمشق بسبب افتراقات سياسية حادة . ويقول بأن الفصائل الأخيرة قد إزداد عددها ، وأصبحت أكثر تصلباً في معارضتها ، وذلك لأن السلطات السورية نفسها كأنها أصبحت “معارضة متصلبة” في الفترة الأخيرة ، ولا تقدم على أية تنازلات في معظم القضايا ، التي ينص عليها قرار مجلس الأمن 2254 .
الصوت الروسي الآخر المنتقد للأسد ، جاء أيضاً على لسان أحد الباحثين الرئيسيين في معهد الإقتصاد العالمي والسياسة الدولية المؤرخ ستانسلاف إيفانوف في صحيفة “NG” ، التي تقول بأنها مستقلة . يقول الرجل بأن الهجوم الأخير لجيش النظام في شمال سوريا ، جاء تحت ضغط الجناح الراديكالي في محيط الأسد ، وضغط ممولي النظام في طهران . ويلاحظ أن مبررات إردوغان للمطالبة بوقف هجوم قوات الأسد في إدلب فيها بعض من عقلانية ، ويعمد إلى تعداد أسباب الرئيس التركي ويراها منطقية .
يدعو إيفانوف القيادة الروسية إلى عدم التمسك بشرعية سلطة الأسد ، ويذكر هذا بطرد “سوريا الأسد” من جامعة الدول العربية ، ويحتسب عدد السوريين ، الذين يعترفون بسلطة النظام ، وعدد أولئك الذين انتخبوه منهم . ويقول بأن دورة العنف الأخيرة في سوريا ليس لها ما يبررها ، ويعجب لعجز أعضاء محلس الأمن الدولي الدائمين أو “لعدم رغبتهم” في تنفيذ القرار 2254 ، في حين يتضح يوماً بعد آخر ، أن “الوحوش الكاسرة” في المنطقة ، المتمثلين يإيران وتركيا وعدد من الدول العربية يحولون سوريا إلى حقل لحروبهم المستعدين لمواصلتها حتى آخر سوري .
وكان إيفانوف قد سبق له في مقالة في الصحيفة عينها ، قد رفع الصوت ليس في وجه الأسد فحسب ، بل وبوجه بوتين أيضاً، إذ دعاه إلى سحب قواته من سوريا ، مع سائر القوات الأجنبية الأخرى، من أجل وقف المقتلة السورية وإنهاء معاناة السوريين.
(المدن)