سنار حسن
ملابسهم، تصفيفات شعورهم، مكياج وجوههم، قد تبدو إشكالية بالنسبة إلى كثيرين. ففي شرائح واسعة من المجتمع العراقي ليس مألوفاً هذا النمط من الأزياء والمظهر.
هؤلاء الشبّان باتوا نجوماً مع مقاطع الفيديو التي ينشرها المصور زهير العطواني وتنتشر بشكل لافت على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى وصلت شعبيته إلى معظم البلاد العربية.
الأعراس التي يصوّرها العطواني معظمها في مدينة الصدر شرق العاصمة بغداد، ذات الغالبية الشيعية، ومعقل أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر. لكن من هذه المدينة المحافظة، يخرج جيل من المراهقين الذين لم يكترثوا لدوامة الخطاب الطائفي والديني، متمرّدين على نمط الحياة الذي سار عليه آباؤهم، وبات يطلق عليهم لقب “العطوانيين” نسبة إلى مصور حفلات الزفاف الشهير.
في فيديوات العطواني، يظهر العريس ويكون نجم الفيديو، وهو غالباً لا يتجاوز الثامنة عشرة، ويكون برفقته أصدقاؤه المراهقون، لتدخل كاميرا العطواني إلى تفاصيل المنزل حيث يتجهّزون للاحتفال بالعريس، أثناء الحلاقة وتصفيف الشعر وارتداء بدلة العرس ووضع بعض مستحضرات التجميل التي تعطي البشرة اللون الزهري.
يظهر العريس وجميع الحضور مرتدين ملابس بألوان زاهية وألوان شعر وتسريحات غير مألوفة مع نمط احتفال صاخب، كاسرين بذلك جميع التابوات والمعايير الاجتماعية في المدينة المحافظة، ما يعرضهم في كثير من الأحيان للانتقادات والأذية اللفظية والتهديدات والكثير من السخرية.
يقول علي مهدي (17 سنة) من مدينة الصدر، وهو يعمل في بيع ملابس مستخدمة (البالة)، إن شبان المدينة ما أن يسمعوا بأن هناك حفل زفاف في احد الاحياء حتى يجتمعوا، وإن لم يكونوا من عائلة العريس وأقربائه أو أصدقائه، “تجدهم يرقصون بجنون في كل مرة وكأنها المرة الاخيرة قبل توقف الزمن والعودة إلى واقعهم الشاق الذي يعيشونه كل يوم”. سكان هذه الأحياء الفقيرة لا يمتلكون رفاهية استئجار قاعات الأعراس لذلك تُقام الأعراس في شوارع المدينة الضيقة، ومعظم هؤلاء المراهقين يعيلون أسرهم، مع أن معظمهم لم يلتحقوا بالمدارس، أو لم يكملوا تعليمهم. هم عمال نظافة أو بائعو عبوات غاز وغيرها، يعيشون قمة البؤس والشقاء، لذلك “عند أي مناسبة يعبر هذا الجيل عن نفسه بالطريقة الوحيدة التي يعرفها وهي الاحتفال بطريقته الخاصة بمعزل عن القوانين”، على حدّ قول علي.
لا نساء في أعراس العطواني
تغيب النساء في بيئة العطوانيين ما عدا مشاهد لبعض النساء المُسنات، فلا نرى العروس، ولا يظهر في مشاهد الأعراس التي “يولفها” (مونتاج) العطواني على طريقته، سوى الذكور في إشارة واضحة إلى أنه حتى في أكثر البيئات تمرداً، لا تتملك الإناث حق المشاركة في هذا التمرد على العادات والتقاليد المجتمعية. كما تظهر في هذه الأعراس، الأسلحة بمختلف أنواعها: الخفيفة والثقيلة. وهذا الظهور المسلح يبدو غالباً لغايات إخراجية، لكن أيضاً تعكس رغبة الرجال في تأكيد ذكوريتهم بالسلاح، الذي، كالماكياج، يعتبر زينة الرجال.
العطوانيون و”تهمة” المثلية الجنسية
وبين المكياج والسلاح، يتم “اتهام” العطوانيين غالباً بأنهم “مثليون جنسيون”، بسبب مظهرهم وزينتهم التي تبدو للمجتمع العراقي أنثوية في الرقص والتبرج وتصفيف الشعر. ومدينة الصدر شهدت في فترات سابقة ملاحقة للمثليين وصلت إلى حد قتل بعضهم في فترات مختلفة منذ عام 2003 وحتى اليوم. ولم تسلم تجمعات المثليين من ملاحقتهم باتهامات وخرافات من جهات عدة، وكان أحد من سوّق لها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي خرج بتصريح يتهم فيه المثليين بالتسبب بفايروس “كورونا”.
عطوانيون في ثورة تشرين
في بداية ثورة تشرين، كان هؤلاء الفتية الصغار من جيل العطواني الذين طالما عملت طبقة المثقفين المخملية في المجتمع العراقي على نبذهم وعزلهم عن بقية مناطق العاصمة بغداد، في طليعة المتظاهرين المتحمّسين في احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ضد الأحزاب السياسية الحاكمة، وقدموا أجمل صور البطولة للمساعدة على نقل الجرحى والمساعدات الطبية للمتظاهرين بوساطة عجلة “التك تك” المشهورة بسرعة تنقلها بين الشوارع. وقد سقط كثيرون منهم قتلى برصاص الميليشيات والقوات الأمنية.
كانت صورهم التي نراها في حفلات الزفاف بوجوههم الشابة المبتسمة المتبرّجة وملابسهم الملونة التي تعكس شوقهم للتمسك بهذه الحياة، على رغم الفقر الذي يعيشونه تزين أضرحة القبور والشوارع الفقيرة. وجدوا في الثورة استكمالاً لثورتهم الخاصة ضد جانب من التقاليد، وضد السلطات التقليدية التي لم يخرج منها سوى القمع والتخلف والرصاص.
بحسب الباحث الاجتماعي كريم الجاف، فإن ظاهرة جيل العطواني تعكس تصادم الثقافات بين جيلين مختلفين، هما جيل الآباء ممن تمسك بالحروب والعادات العشائرية وجيل الانفتاح الثقافي والدعوة إلى التحرر ونبذ التقاليد البالية التي عاشها الشباب في السنوات الاخيرة. وهذه الظاهرة “لا تدعو إلى الخزي وجلد الذات بل أجدُ أن الشيء الوحيد الذي يدعو إلى الخجل هو السماح بتزويج القاصرين والزيادة السكانية بدون تخطيط وحتى استخدام السلاح في الاحتفال وكل هذا بحاجة الى قوانين حكومية وعقوبات رادعة، عندما يكون هناك مجتمع يعاني ما بين انغماسه بالدين والأعراف العشائرية من جهة وبين التوق للحياة والتحرر، تخرج عنه هذه النتيجة”.
الإلهام الكوري
تنتبه ندى مهدي (26 سنة) مهندسة من بغداد إلى أن العطوانيين يقلّدون فرقاً غنائية كورية شعبية لاقت انتشاراً واسعاً بين المراهقين من جميع أنحاء العالم، فبدأ هؤلاء الشبان تقليد نمط ملابس هذه الفرق وتصفيفات شعر أفرادها. وفي أوروبا بحسب ندى، لا يشعر من يقلد هذه الفرق بأنه منبوذ أو غريب، إذ تجد “عطوانيين” عالميين في كل مدن أوروبا حيث يتاح لأي شخص أن يرتدي ما يهواه ويصفف شعره كما يشاء من دون تضييق، كالذي يتعرض له العطوانيون في العراق، وهم يعيشون في ظروف معيشية مزرية، ومعظمهم لا يتجاوز الرابعة عشرة، ويكون المعيل الوحيد لعائلته بسبب الفقر وبسبب إقصاء الحروب المذهبية لآبائهم، إن بالقتل أو الإصابات التي أعجزتهم”.
الصحافية نور القيسي ترى أن “فئة المراهقين في كل مكان وزمان لها بصمتها الخاصة. وتشبّه ما يكرسه العطوانيون بالفن الشعبي أو فنون الشارع، التي تتحول إلى نمط حياة، مثل “الفن الشعبي أو فن الشارع”، هو ليس فناً وحسب، إنما نمط حياة، وهذا النمط الذي يقدمه “العطوانيون” يخرج، عبر الملابس الزاهية والغريبة ليواجه البدلات الرسمية والعسكرية والعمامات الدينية. بالنسبة إلى القيسي، ما يفعله “العطوانيون” هو فعل اعتراض أولاً، ضد الذين سرقوا حياة هؤلاء الشبان ومستقبلهم.
المصدر: درج