سمير الزبن
لم أستطع إكمال مشهد من المشاهد الكاملة المنشورة على مواقع التواصل عن مذبحة حي التضامن في دمشق التي حدثت في عام 2013، كما جاء في تحقيق صحيفة الغارديان البريطانية، ليس لأنني اتخذت قراري مبكّراً بألا أطبّع نفسي مع مشاهد القتل، وأعتاد القتل مسألة عادية، بعد استباحة عصابات القتل الأسدية سورية، بل هو سبب شخصي آخر، جعل ترويع هذه المشاهد مضاعفاً بالنسبة لي، أن مصير هؤلاء وغيرهم ممن قضوا في مذابح جماعية في سورية كان يمكن أن يكون مصيري الشخصي، كان يكفي أن أكون في المكان الخطأ والزمان الخطأ في دمشق، حتى يكون مصيري بين هؤلاء، خصوصاً وأن “التضامن” الذي جرت فيه هذه المذبحة الجماعية حي ملاصق لمخيم اليرموك الذي ولدت فيه وقضيت عمري فيه، حتى خروجي من البلد بعد أقل من عامين من انطلاق الاحتجاجات في سورية.
للقتل وظيفة سياسية، أو للسياسة وظيفة القتل في بلد مثل سورية، هذا لا يبرئ القاتل المباشر من جريمته، يدينه ويحيله، في الوقت نفسه، إلى مجرم أكبر. المجرمون الصغار (التروس) يدورن في فلكه (آلته) ويأتمرون بأمره. لم تُبنَ آلة القتل الأسدية وتصمّم في صراع قمع الاحتجاجات السورية التي انطلقت مارس/ آذار 2011، إنما قبل ذلك بوقت طويل، وعند انطلاق الاحتجاجات كانت جاهزةً لحصد أرواح السوريين في كل المدن والبلدات والقرى التي جرت فيها مظاهرات معادية للنظام. تنتمي آلة القتل التي فتكت بالسوريين إلى مؤسّسها الحقيقي، حافظ الأسد، فهو مصمّم نظام الإبادة في سورية، فمن تسلم نظام الحكم في سورية عمل، وبشكل حثيث، على تحكيم أجهزة المخابرات، ليس في حياة الناس العاديين فحسب، بل باتت هذه الأجهزة هي الحاكمة، وبإشرافه وإدارته طبعاً، للجيش أيضاً، وبذلك جرى اعتقال الأمن العسكري الذي بات متحكماً بالوحدات العسكرية المؤسّسة العسكرية السورية، بدلاً من أن تكون الأركان العامة وأركان الوحدات العسكرية هي المتحكّمة في وحداتها، وبات أمن الوحدات العسكرية، بصرف النظر عن حجمها، من فصيل إلى فرقة، تعود أمور الوحدة فيها حقيقةً إلى ضابط الأمن في الوحدة. وهو ليس القائد الأعلى للوحدة العسكرية، أي جرى إخضاع الرتب الأعلى إلى الرتب الأصغر في الوحدات العسكرية، لشلّ قدرة الجيش على القيام بانقلاب عسكري مرة أخرى بعد تسلم الأسد الأب السلطة في سورية، وهذا ما نجح فيه الأب. تجلّى هذا النجاح في اختبار الثمانينيات التي أدار فيها النظام مذابح ضد السوريين، خصوصاً في حماة وحلب وإدلب، بحجة مواجهة إرهاب “الإخوان المسلمين”. ويمكن اعتبار هذه الفترة من تاريخ سورية في مطلع الثمانينيات هي التي استطاع فيها الأسد الأب لا تحكيم أجهزة المخابرات في البلد، بل وتجفيف السياسة أيضاً من خلال القضاء على طيف القوى السياسية في سورية، بيمينها ويسارها، ولم يبقَ سوى الهياكل الفارغة لما تسمّى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي يُمنع أعضاؤها من العمل في الجيش وبين الطلاب. أي أنها كانت غطاء شكلياً للأسد القابض شخصياً على كل مفاصل البلد.
عندما أنزل النظام الدبابات في مواجهة المتظاهرين في الأيام الأولى للاحتجاجات في درعا كان واضحاً أن النظام اختار سياسة القتل في مواجهة هذه الاحتجاجات، أو أنه لا يملك سوى هذه الآلة التي تركها الأب لابنه، آلة قتل فتّاكة ومجرّبة، ولم يكن على الابن الوارث للسلطة من أبيه، من دون أن يملك خبرات أبيه، سوى أن يكبس زر التشغيل لآلة القتل التي اخترعها وصمّمها الأب. وحتى تقوم هذه الآلة بدورها، كان على رأس النظام، الأسد الابن، أن يجمع أمثال أمجد يوسف والذين يديرونه، وهم أكثر إجراماً، ويطلقهم لينهشوا اللحم السوري بأبشع الطرق. ويُحصي تحقيق “الغارديان” 288 ضحية في مقاطع الفيديو الـ 27 التي حصلوا عليها، صوّرت بكاميرا بجودة عالية، وليس بهاتف موبايل، وواضح أن التوثيق لم يكن من أجلهم، بل وثّقوا ما قاموا به من أجل قادتهم ومشغليهم. وكرّر يوسف تبريراً لما قام به لأنها “مقتضيات وظيفته” وهي الذريعة نفسها التي قدّمها إيخمان في محاكمته على الجرائم التي ارتكبها بوصفه ضابطاً نازياً بحق اليهود؛ أنه قام بوظيفته أيضاً.
ليست المرّة الأولى التي يوثّق فيها النظام جرائمه، فقد سبق أن كشف قيصر أنه جرى تكليفه رسمياً بتصوير خمسين ألف صورة لأحد عشر ألف ضحية قُتلوا تحت التعذيب في السجون السورية. والسؤال: كم الأفلام التي توثّق المذابح الموجودة اليوم في أرشيف فروع المخابرات في سورية، لمذابح في طول البلاد وعرضها، خصوصاً أن فرع المنطقة الذي يعدّ مسؤولاً عن المذابح في المنطقة الجنوبية ليس أشرس الفروع وأكثرها قسوة، فهناك فرع أمن القوى الجوية (قاده جميل الحسن)، والذي أبدى استعداده لإبادة مليون سوري، وبعد ذلك يذهب إلى المحكمة.
ما مارسه النظام في سورية ضد شعبه ليس عمليات قمع، بل عمليات إبادة جماعية، وعلى سنوات، جعلت أعداد السوريين تتناقص، ليس عن طريق الهجرة فحسب، بل حتى عن طريق القتل، والتي لا أحد يعرف أعداد القتلى والمفقودين على وجه الدقة فيها. وحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، تخطّى عدد قتلى الحرب في سورية 350 ألف شخص، وهناك عدد لا يُحصى من المفقودين في البلاد. وأعتقد أن الأرقام ضِعف تقديرات المنظمة الدولية.
بات من الضروري محاكمة مجرمي الحرب في سورية، في مقدمتهم رأس النظام، من أجل تقديم العدالة إلى الضحايا وذويهم. استمرار رأس النظام في الحكم وصمة عار في جبين العالم كله. وإذا كان من الصحيح ما تقوله حنا أرندت “أعظم الشرور في العالم يرتكبها أشخاص نكرات”، فإن محاكمة هذه النكرات ليست من أجل الشماتة بها، بل لإنصاف الضحايا.
المصدر: العربي الجديد