جسر: متابعات:
ألقى علي خامنئي المرشد الإيراني قبل أيام، ولأول مرة منذ ثماني سنوات، خطبة الجمعة في طهران، أمام حشد يُعدّ بالآلاف، في محاولة لتهدئة الجمهور الغاضب جرّاء إسقاط الحرس الثوري عن طريق الخطأ طائرة أوكرانية كان على متنها 176 راكباً، وإمعانه في الكذب حول مسؤوليته عن الحادث على امتداد ثلاثة أيام تلت الكارثة.
تحدث خامنئي عن القتل “الجبان” للجنرال قاسم سليماني على يد الولايات المتحدة الأميركية، وعن الرئيس ترمب الذي يستخدم تحطم الطائرة لـ “يطعن بسكين مسموم” ظهر الشعب الإيراني. غير أن لغة منمقة كهذه لن تفيده كثيراً في تهدئة روع المنتقدين الذين يرون إسقاط الطائرة تجسيدا لانعدام الكفاءة علاوة على الازدواجية والانقسام اللذين تعاني منهما حكومة بلاده.
لكن تختلف طبيعة الأزمة بشكل ملحوظ عن الصورة التي تُرسم لها حالياً خارج إيران. فالأخطاء التي ارتُكبت تتجاوز سلسلة الحماقات التي وقعت أخيرا، وما يناله سليماني وخامنئي من الهتافات المؤيدة والانتقادات أيضاً لا يحجب حقيقة أن سياسات الرجلين في الشرق الأوسط أصبحت تعطي نتائج عكسية.
حققت إيران نجاحا كبيرا خلال السنوات الأربع الأخيرة على صعيد بسط نفوذها في دول يعيش فيها الكثير من أبناء الطائفة الشيعية، لكنها فشلت في تعزيز الأمر الواقع الذي لعبت دورا قويا في خلقه. هناك مثل قديم معروف في المنطقة يقول إن “الإيرانيين ماهرون في جمع الأوراق، لكنهم لا يعرفون كيف يلعبونها”.
فعلى الرغم من النجاح الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، ظلت بنية السلطة في هذه البلدان الثلاثة متهالكة وعرضة للأزمات. وخلال الأربعة أشهر الأخيرة واجه العراق ولبنان وإيران احتجاجات جماهيرية واسعة، بينما تعيش سوريا المخاض الأخير من حربها الأهلية.
يمكن القول إن الكثير يعتمد على الكيفية التي ستردّ القيادة الإيرانية من خلالها في الأشهر القليلة المقبلة على اغتيال سليماني، الذي كان يُعتبر ممثلها الرفيع المستوى الذي كان يشرف على مناطق النفوذ الإيرانية. وإذ تستطيع الدولتان الاستمرار في الدفع باتجاه نزاع شامل بينهما، هناك احتمال محدود بأن تجنحا إلى الاتفاق على صفقة لتسوية خلافاتهما.
لا تريد أي منهما الحرب. فكما تبين من اعتراف أميركا المتأخر، أُصيب 11 جنديا أميركيا بجروح نتيجة للهجوم الإيراني بصواريخ باليستية على قاعدتين أميركيتين في العراق في 8 يناير (كانون الثاني) الحالي. بيد أن ترمب أكد بادئ الأمر للعالم، بعد القصف الإيراني مباشرة، أنه لم تكن هناك أي خسائر بشرية أميركية، ولذلك فليس ثمة ضرورة للانتقام. في الوقت نفسه، صدرت تعليمات للميليشيات التابعة لإيران في العراق بعدم مهاجمة أهداف أميركية هناك، وذلك في محاولة لتخفيف الأزمة بين واشنطن وطهران.
على المدى البعيد، إذا استمرت إيران باتبّاع السياسات التي وضعها سليماني وخامنئي فإنها ستجد نفسها مضطرة لاستئناف حرب على مستوى منخفض مع الولايات المتحدة للتصدي للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها. وقبل حصول ذلك، على إيران أن تقرر ما إذا كانت تستغل حادث تصفية سليماني كي ترسم استراتيجيات جديدة تحل محل تلك التي أخفقت.
ليس هناك من يراقب تغير الرياح السياسية في طهران بالدقة التي يعاين بها العراقيون ذلك، ولاسيّما أنهم يعرفون أن بلدهم هو ميدان الصراع بين الولايات المتحدة وإيران.
يقول سياسي عراقي شيعي بارز في بغداد في مقالة نشرت على مجلة ” ميدل إيست آي” الإلكترونية، إن “إيران في وضع شديد الخطورة. السياسة التي اتبّعها خامنئي سابقا في إدارة الملف العراقي والمنطقة ما عادت ناجحة. فالحرس الثوري الإيراني ساهم في خلق مشاكل في العراق تحولت فيما بعد إلى عبء على إيران كما أصبحت عقبة تعترض طريق مفاوضاتها مع الولايات المتحدة”.
والآن تشهد إيران المناقشات حول ما إذا كان على الحرس الثوري أن يمسك بالملف العراقي، أو يسلمه إلى شخص آخر، مثل جهاز الاستخبارات أو وزارة الخارجية. كان إسماعيل غني، نائب سليماني الذي عُيّن خلفا له في قيادة فيلق القدس، مسؤولا عن إدارة الملف الأفغاني، وهو غير ملم بما فيه الكفاية بالشرق الأوسط.
وبصرف النظر عن الضغط الأميركي بغرض عدم الاشتباك، فإن من مصلحة إيران نفسها أن تقلص دورها المباشر في العراق، والاكتفاء بانتظار أن تُخرج الحكومة العراقية والأحزاب السياسية الشيعية الولايات المتحدة من العراق. وفي سوريا، حيث كانت إيران تنسق الدعم للرئيس بشار الأسد منذ عام 2011، أصبح انسحاب قواتها ممكناً، لأن الأسد كسب، إلى حد كبير، الحرب للبقاء في السلطة، كما باتت روسيا تلعب الدور القيادي في دعمه منذ عام 2015.
ونظرا إلى حصول هذه التطورات، سيكون توصل طهران وواشنطن إلى اتفاق يتعلق بتقليص نشاط إيران الإقليمي أكثر سهولة مما يبدو عليه الأمر. فالمشكلة هي أن السياسة في الشرق الأوسط، تتجلى في أن كل طرف يميل إلى التمادي في نشاطاته، وهذا ما يجري عادة حين يبالغ بالاعتقاد بقدرته على شلّ خصمه وإخراجه من الساحة نهائياً. سقطت الولايات المتحدة في هذا الفخ مرارا في أفغانستان والعراق وسوريا، ومن المحتمل جدا أن تكرر خطأها هذا في سياق مواجهتها مع إيران، وهي مواجهة تمثل حالة خطيرة من الجمود التي يحتمل أن تتحول في أي لحظة إلى حرب شاملة بينهما، وذلك بغضّ النظر عن نوايا الطرفين.
إن واشنطن تطالب طهران بتقديم أقصى قدر من التنازلات بشأن مرافقها النووية وصواريخها الباليستية ونفوذها الإقليمي، وهذا يعني أن أميركا تريد تغيير النظام في إيران أو استسلامه. من المحتمل الوصول إلى هاتين الغايتين، ولكن ليس من المرجح تحقيق أيهما، فالقيادة الإيرانية تميل إلى التكاتف حين تشعر بالتهديد، وهي مستعدة لاستخدام أي قدر من القوة بهدف البقاء في السلطة. وفي هذا الإطار، ظلت العواصم الغربية تتوقع نهاية نظام الملالي في طهران منذ إسقاط الشاه عام 1979، ولكن من دون جدوى.
جاء انسحاب ترمب من الاتفاق النووي الإيراني في مايو (أيار) 2018 من دون شرح متماسك عما فيه من نواقص، أو عن البديل المقترح للاتفاق. ومنذ ذلك الوقت، واصلت إيران والولايات المتحدة القيام بنشاطات يمكن اعتبارها أعمالا حربية تُوِّجت خلال الأشهر القليلة الماضية بضرب الإيرانيين لمرافق نفط السعودية واغتيال الولايات المتحدة لسليماني.
تجنّب الطرفان في كل مناسبة المواجهة الشاملة كخيار للردّ، لكن ضبط النفس هذا سيف ذو حدين، ولا يمكن أن يستمر إلى الأبد.
في المقابل فإن الأساس لاتفاق بينهما موجود، لكن ذلك لا يعني أنه سيتحقق.
(اندبندنت عربية)