جسر – صحافة
هي “داحس وغبراء” الحروب الحزبية السورية، وإن كانت معروفة على نطاق ضيق من المتابعين، هذا هو حال الحرب بين بقايا من “حزب العمل الشيوعي” و”الحزب الشيوعي-المكتب السياسي”، لاحقاً “حزب الشعب”. في استئناف كاريكاتوري للماضي، يتهم البعض من حزب العمل رياض الترك، الزعيم التاريخي لجماعة المكتب السياسي، بتدمير الثورة السورية إذ سلّم قيادتها للإخوان، وكان بذلك يكرر خطأ تنظيمه التاريخي عندما اعتبر انتفاضة الإخوان في مطلع الثمانينات “حركة شعبية”.
في المقابل، عندما يستعيد أحد من “المكتب” خصومة الثمانينات فلا بد أن يسترجع كيف نقل حزب العمل البندقية من كتف إلى كتف، كناية عن إيقاف معارضته النظام وجعل الأولوية للتصدي للإخوان. ونقل البندقية إلى الكتف الآخر سيبدو حاضراً بهيئة أخرى مع الموقف المتخوف من الثورة، أو من “أسلمتها”، ولا مصادفة في أن يتقاطع هذا مع موقف الأقليات. هنا تلميح لا يخفى إلى تركيبة حزب العمل، بما في ذلك اعتباره وريثاً لجماعة 23 شباط المحسوبة على صلاح جديد، مثلما يمكن اعتبار موقف الترك وجماعته انحيازاً إلى الأكثرية المذهبية. نحن هنا لا نتبنى التأويلات، بل نشير فقط إلى ما يمكن استخلاصه أو فهمه من أساليب القول الملتوية التي اعتاد عليها السوريون.
يُروى أن خالد بكداش أرسل وفداً من الحزب الشيوعي إلى مناسبة عالمية في منتصف الخمسينات، ربما كانت شيئاً من قبيل مؤتمرات الصداقة والسلم بين الشعوب، وكان الوفد برئاسة وحيد.م ومن بين الأعضاء إلياس مرقص؛ المثقف الموهوب الذي سيُطرد من الحزب عام 1956. ميزة وحيد.م أنه كان مقرّباً من بكداش، ويصعب استبعاد انتمائهما الكردي كسبب للتقارب بينهما. لكنهما لم يكونا من بين قلّة، فنسبة الأكراد في الحزب كانت مرتفعة جداً حتى عام 1957، لتبدأ الحركة الكردية الوليدة منذ ذلك التاريخ باستقطاب كثر من الشيوعيين الأكراد.
اتخذ الحزب القومي السوري طابع المحفل الأقلوي المغلق، بينما اتجهت الحركة الناصرية السورية لتكون الوجه السُني للتيار العروبي، في المقابل من البعث الذي صار تحت سيطرة العسكر، ثم صار يُنظر إليه بريبة سُنية منذ انقلاب 23 شباط. يمكن القول أن تركيبة التيار الناصري الغالبة كانت أقرب إلى سُنة المدن المحافظين مقابل الريفيين بتنوعاتهم، وأقرب إلى ما هو مدني مقابل انقلابية وعسكرة البعث.
لا توجد قاعدة إحصائية لمنتسبي الأحزاب السورية وانتماءاتهم الأهلية، لكن ثمة غلبة قد لا تكون عددية ساحقة دائماً، هذه الغلبة لها دلالتها التي تفوق في العديد من الأحيان الدلالات الأيديولوجية المعلنة. في المثال الشيوعي السابق، من المؤكد أن الأيديولوجيا الشيوعية كانت لعقود بمثابة الخيار الأفضل المتاح للأكراد، فهم بالتأكيد لن يكونوا مع التيار العروبي البعثي الصاعد منذ الأربعينات، ولا مع الإسلاميين الذين بدأوا مشوارهم السياسي منذ الثلاثينات. إن ما هو فوق-قومي كان بهذا المعنى ملجأ وخلاصاً مما هو قومي، إلى أن برزت الحركة القومية الكردية كتمثيل أفضل لواقع الحال.
وما يصح على الأكراد يصح أيضاً على غيرهم، فتبدو التجربة الحزبية الأيديولوجية هروباً من سوريا واستحقاقاتها أكثر مما هي أيديولوجيا مختارة ومنتقاة لذاتها. لقد استقرت الفكرة القومية لدى سلطة البعث مثلاً على ما هو مناقض تماماً لأصولها، ومن المؤكد أن شعارات البعث السوري عن الأمة والوحدة العربيتين باتت جوفاء تماماً مع وجود سلطة تخشى أصلاً الذوبان في ذلك المحيط العربي، في حين لا يملك الناصريون الحساسية ذاتها إزاء الذوبان فيه. جدير بالذكر أن أيديولوجيا العروبة البعثية في جانب معتبر منها كانت استمراراً لفكرة القومية التي حملها أولاً أبناء الأقليات منذ نهايات الحكم العثماني، في محاولة مفهومة منهم للتخلص من الرابطة الإسلامية “السنية”.
وصولاً إلى السبعينات من القرن الماضي، صارت هناك تشكيلة من التنظيمات القومية والشيوعية نشأ معظمها على انقسام الأحزاب الأم. من أسباب الانقسام غياب الديموقراطية في تجارب تلك الأحزاب كافة، واستحالة التغيير من ضمن الأطر التنظيمية الداخلية. إلا أن العديد من الانقسامات على أساس الروابط الأهلية يطيح بأسبابها المعلنة، وبذرائعها الفكرية. عندما تبقى الكتلة الكردية الكبرى إلى جانب خالد بكداش، مع انشقاق جماعة المكتب السياسي، فهذا لا يؤشر إلى صراع فكري ضمن البيت الماركسي الواحد، وقد يبدو الأمر من الطينة ذاتها مع سعي جماعة المكتب إلى المصالحة بين الماركسية والعروبة. في الجوار العراقي، بأسباب وحساسيات مختلفة، احتُسب الحزب الشيوعي على الشيعة.
ورغم الانسجام المذهبي الخالص لم تنجُ جماعة الإخوان المسلمين من الاستقطابات الداخلية، بطرفيها المزمنين والتقليديين؛ جماعة حلب وجماعة حماة. الفكرة الشائعة منذ وقت طويل أن جماعة حلب تمثّل تيار الاعتدال ضمن الجماعة، بينما الصقور من جماعة حماة، ويظهر أثر ذلك عندما يفوز الصقور بالقيادة أو العكس. في الخلفية تطل العوامل الأهلية الفاعلة، فحماة فيها من التعدد الطائفي وحساسياته ما ليس موجوداً في حلب، وتلك الحساسيات والصراعات كانت بمثابة مصنع للتطرف الذي ظهرت نتائجه الأولى في مواجهة الستينات مع حكم البعث، وحتى تجربة الطليعة المقاتلة اللاحقة في حلب تُعدّ وثيقة الصلة بالإرث الإخواني الحموي أكثر من صلتها بالاعتدال الحلبي الذي لم يتوانَ بعض منه عن التنكر لها.
من ضمن التشكيلة الأيديولوجية المتوفرة، كان مفهوماً ألا يبقى الدافع الأهلي بعصبياته بعيداً عن عن منتسبي الأحزاب. وإذا كانت الأحزاب الحديثة “نظرياً” هي انتظام مجتمعي-سياسي يخترق التشكيلات الاجتماعية الأهلية التقليدية فإن ما حدث غالباً هو أن التشكيلات الاجتماعية الأهلية اخترقت الأحزاب السورية، وفرضت نفسها على ملامح تلك الأحزاب، أي كما تظهر بالنسبة إلى الآخرين، وفرضت نفسها على الصراعات والانشقاقات الداخلية.
وكما في كل استعراض من هذا النوع، ينبغي التحذير من اعتبار هذه الظاهرة ملمحاً وحيداً يختصر التجربة الحزبية برمتها. فالأحزاب السورية لم تكن محض تمثيل طائفي بتسميات أيديولوجية حداثية، إلا أن الأيديولوجيات القومية واليسارية لعبت في الكثير الأحيان دور الغطاء الذي تتخفى تحته الطائفية، أو عصبيات أخرى قومية أو مناطقية. ربما تكون لعبة التخفي، مع ما تعنيه من افتقار إلى الأصالة والنزاهة الفكريتين، قد سهلت انهيار التجربة الحزبية السورية، ربما باستثناء الإسلاميين الذين كان من أولوياتهم إبراز بضاعتهم المذهبية لا إخفاؤها.
المصدر: موقع المدن (عمر قدور)