عبد الناصر العايد
رغم أن الحرب بين أوكرانيا وروسيا، حظيت بأكبر وأسرع تغطية إعلامية في التاريخ، إلى درجة ان المرء يظن أنه ما من تفصيل صغير ولا كبير إلا وتم الحديث عنه وعرضه، إلا أن وقائع كثيرة تشير إلى جانب خفي في الصراع، يكاد يكون هو الصراع الحقيقي. وهو أمر ليس فريداً. فلطالما كانت السرّية من سِمات الحروب، خصوصاً الحديثة منها. لكن كواليس حرب أوكرانيا تكتنف خطورة كبيرة لما فيها من ذكاء، وأقصد هنا الأسلحة فائقة التطور، التي لم تعرف لها البشرية مثيلاً، والتي يستعر السباق بين القوى العظمى لامتلاك أكبر قدر منها، واختبارها واستعمالها ومراكمتها، تحسباً للحظة غير مستبعدة، يصبح فيها مَن لا يمتلك ترسانة منها، خارج التاريخ وحساباته.
وإذا كان من الطبيعي أن نرى صواريخ كروز تُسقط حوامات روسية من طرازات قديمة، فإنه من غير المنطقي، من وجهة نظر علم الطيران العسكري، أن تُسقط الدفاعات الأوكرانية، وهي من الأجيال السوفياتية المتقادمة، طائرات من طراز سوخوي-35 وسوخوي-34، والتي يُروّج حتى الآن أنها أُسقطت بكمين جوي أوكراني معقد بواسطة المنظومة السوفياتية S-300 PMU. وهي فرضية قد تكون صحيحة، رغم تمتع الطائرات الروسية بأنظمة تشويش متقدمة جداً. لكن الفرضية نفسها قد تخفي أيضاً استخدام سلاح لطرف ثالث تم تجريبه هنا، ولو لمرة واحدة.
كما أنه من اللافت للانتباه، عدم تمكن الأسطول الجوي الحربي الروسي، والمتضمن أكثر من 1500 طائرة مقاتلة حديثة، من السيطرة على الأجواء الأوكرانية التي تدافع عنها فقط أقل من 100 طائرة سوفياتية قديمة أيضاً، وبلا قطع غيار، أعلاها قيمة طائرات ميغ-29، والتي لا تقارن إطلاقاً بقدرات الطائرة سوخوي-57 على سبيل المثال.
السؤال ذاته يطرح نفسه عند الحديث عن انفجار وغرق الطراد “موسكوفا”. فقد تكون صواريخ نبتون الأوكرانية المضادة للسفن، هي التي أصابت السفينة فائقة التحصين، لكن لم يُقدم دليل واحد على أنها هي التي فعلت ذلك، أو أنها فعلته من دون مساعدة خارجية حاسمة، مثل تشويش معيّن قيّد كافة أنظمة الاستشعار في الطراد.
يقودنا هذا إلى التفكير بالحرب السيبرانية الحديثة، والتي بلا شك تدور رحاها غير المنظورة بين الغرب وروسيا، وربما الصين، في مكان غامض من عالمنا. ولا بد أن ثمة هجمات كبيرة، على منظومات قيادة وتوجيه، وعلى منشآت حيوية، ولا بد أن ثمة سرقة لمعلومات، وتسريباً لمعطيات وإرشادات، مما له دور حاسم، وهذه الأمور تكمن وراء كل حركة وسكون في ميدان القتال، وهو ما لا يمكن أن يعلن عنه أي من طرفي الصراع، مع أنه الجانب الأخطر.
ثمة معركة اختبار أسلحة أيضاً، لا يذهب شيء من نتائجها إلى وسائل الإعلام، بل إلى المختبرات العسكرية الكبرى السريّة، ويبدو أن الدول التي أرسلت أسلحتها لتجريبها في الميدان ليست فقط روسيا والولايات المتحدة. فبريطانيا في المقدمة على ما يبدو، وقد أرسلت على نحو معلن صواريخ دفاع ساحلية لم تُجرب في أي حرب سابقة، وصواريخ محدّثة مضادة للدروع. وأرسلت فرنسا مدفعها الحديث “القيصر”. بل أن إيران منحت الروس منظومتها للدفاع الجوي من طراز “بافار 373″، المصمم بالهندسة العكسية لنظام إس-300 السوفياتي، لتجريبه في ميدان القتال الفعلي.
ولا تكتمل الصورة سوى بملاحظة ما يمكن وصفة بالهبّة العالمية لاختبار وتجريب الأسلحة الجديدة الفائقة والإعلان عنها، خارج ميدان الصراع المتفجر في أوكرانيا. فالأمر يتعدى التجربة الروسية لصاروخ سارمات العابر للقارات، والإعلان الأميركي عن قرب الانتهاء من تصنيع الطائرة الفائقة بلا طيار SR-72، التي ستفوق سرعتها سرعة الصوت بستّ مرات، فهذا قد يُعدّ نوعاً من التهديد والردع المتبادل المفهوم. والمثير للاستغراب هو أن تبادر دول مختلفة للإعلان عما لديها في وقت واحد ومتزامن تقريباً، مثل كوريا الشمالية التي أعلنت عن تجربة صاروخية لنوع غير معروف سابقاً من الصواريخ التكتيكية، وإعلان البحرية الصينية عن اختبار صاروخ كروز جديد فرط صوتي مضاد للسفن، وإعلان الهند عن تجريب صاروخ كروز من طراز براهموس الأسرع من الصوت.
هذه الإعلانات المتوالية ليست استعراضاً مجانياً للقوة، فليس من قواعد الحرب أن يكشف طرف ما عن أسلحته الجديدة، التي تعتبر أسراراً عسكرية، بل أن العكس هو الصحيح. والدقيق في حالتنا هذه أن هذه الكشوفات تأتي في سياق سباق تسلّح عالمي، تحسباً لحرب شاملة، قد لا تندلع الآن، وليس بالضرورة كتداعٍ مباشر للحرب الأوكرانية، لكن الأخيرة كشفت أن كل اسباب وعناصر اندلاعها متوافرة، وأقرب مما نتصور.
المصدر: المدن