جسر: متابعات:
في العقود الأخيرة، كان عالم الكتاب والمكتبات العامة والخاصة في المدن العربية يشهد تحولين أو مشهدين أساسيين: الأول بدأ قبل انطلاق الربيع العربي، ويتمثّل في تراجع دور عدد كبير من دور النشر العريقة، بالإضافة إلى إغلاق عدد كبير من المكتبات الخاصة أبوابها، بسبب ما فُسِّر بأنه تراجع للمبيعات واحتضار مهنة إصدار وبيع الكتب، في ظل ما قيل إنها تغير في اهتمامات القارئ العربي وعدم اكتراث الجيل الجديد، أو جيل الستاربكس بعالم القراءة والأفكار (الذي سيشعل عددا من الانتفاضات لاحقاً)، بالإضافة إلى غياب الداعمين والمؤسسات الفكرية. وبُعيد الانتفاضات العربية كان هناك مشهد آخر أكثر مأساوية في ما يتعلق بالكتب وعوالمها، تمثّل في اشتعال النيران في عدد من المدن والدول العربية، ما ولّد ضحايا وقتلى، من بينهم الكتب وذاكرتها وصناعتها. فقد اضطر كثيرون للهرب من مدنهم تاركين وراءهم مكتبات وكتبا، لهم مع كل واحد منها قصة حول شرائها أو أسلوب قراءتها أو أسباب اقتنائها، وهناك قسم وجد مكتبته تحترق أمامه، بدون أن يتمكن من فعل شيء، وهذه حوادث كثيراً ما عاشها قسم كبير من السوريين ممن نزحوا من بيوتهم، بالإضافة إلى أننا بتنا نسمع عن قصص تعفيش هذه الكتب وبيعها تحت جسر المدينة في دمشق، أو سرقة عدد من المخطوطات والتلاعب بالأرشيف تاريخيا، كما حدث مع مكتبة الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف، التي تعرّضت أقسام كبيرة منها للسرقة والتلف في وضح النهار على يد ناسخ كتب، وربما الخوف على مصير الكتب والمكتبات من السرقة والدمار هو ما دفع زوجة الكاتب المسرحي المعروف سعد الله ونوس إلى إهداء مكتبته إلى الجامعة الأمريكية في بيروت.
وعلى صعيد مدينة حلب، هناك عشرات القصص والروايات حول آلاف الكتب والوثائق التي احترقت أثناء التدمير الواسع الذي كانت تتعرض له المدينة على يد قوات النظام السوري. لم يقتصر التدمير على الدمار والحرق، وإنما طال أيضاً سوق الكتب ودور النشر، فالكثير من دور النشر السورية اضطرت إما للإغلاق أو الهرب إلى الخارج، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، دار قدمس التي تميزت في سنوات ما قبل الحرب بترجماتها المتميزة في أكثر من حقل يتعلق بتاريخ الشرق الأوسط والأديان الشرقية، بيد أنها لم تصدر أي شيء منذ سنوات. وبالتالي كنا نلاحظ تراجعاً في وجود الكتب الجديدة داخل المكتبات السورية، وتراجعا على صعيد النشر، وهو انهيار كان يترافق بلا شك مع الانهيار الذي كانت تعيشه سوريا وما تزال، منذ سنوات عديدة عجاف.
وكما ذكرت في البداية، فإن هناك تفسيرات عديدة لأسباب تراجع عالم الكتب والمكتبات، بين من يرده للاستبداد السياسي، ومن يربط ذلك بتغير الاهتمامات وولادة عالم اللكزس (العولمة وفق تعبير توماس فريدمان) الذين يولي اهتماماً أكبر بثقافة الاستهلاك وغيرها من التفسيرات، وقد جاء الربيع العربي أحياناً ليدعم بعض هذه التفسيرات، ويضيف تفسيرات أخرى حول احتراق المدن، واللجوء والنزوح لبلدان أخرى، التي فرضت شكلاً أو علاقة جديدة مع الكتب والمكتبات.
لا تنفي ربيكا نوث، استاذة علوم المكتبات في جامعة هاواي الأمريكية، في كتابها «إبادة الكتب»، أيا من التفسيرات السابقة، بيد أنها تفضّل وضع كل ما ذُكِر سابقاً حول تراجع سوق الكتب في بعض الدول، وحرق بعضها الآخر خلال فترة الاحتجاجات والصراعات السياسية تحت مسمى «الإبادة»، إذ أن حملات تدمير الكتب والمكتبات بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد شر محض، فهي عمليات موجهة نحو هدف وخطط مرسومة بعناية في إطار الصراعات السياسية والحزبية. ترى نوث أن بعض الأنظمة المتطرفة، وفي سعيها نحو بناء يوتوبيا أرضية، انتهكت كل الحدود المتخيلة في سبيل البقاء، لتبرز إلى الوجود لاحقاً الإبادة الجماعية والإبادة الإثنية كإحدى ادواتها للسيطرة.
أما النمط الآخر الذي تقترحه المؤلفة فهو أداة «إبادة الكتب»، الذي تعني به حالة التدمير واسع النطاق للكتب والمكتبات برعاية الأنظمة السياسية في القرن العشرين، غير أن ما ميّز، وإن بشكل سلبي، هذه الإبادة عن الجرائم الأخرى، أنها بقيت غير مرئية إلى حد كبير.
أما الجديد في كتاب نوث الصادر عن سلسلة عالم المعرفة العريقة، فهو أنها تقدّم مصطلحاً جديداً أو تسمية جديدة لما آل إليه واقع الكتب والمكتبات في العالم بشكل عام، وفي العالم العربي بشكل خاص، بوصفه يعكس حالة «إبادة» تعرّضت لها على يد عدد من الأنظمة السياسية في القرن العشرين.
ولكن متى بدأت أولى عمليات إبادة الكتب؟
ترى نوث، أن التدمير المنهجي للكتب والمكتبات في بعض الدول التي عاشت حروباً يُبرز حقيقة أن البربرية وخطر انهيار الحضارة لا يمكن أن يُودعا في كتب التاريخ، وأن الماضي الأوروبي الرهيب، ظل جزءاً من الحاضر الأوروبي. في هذا السياق، تشير المؤلفة لعمليات إبادة الكتب التي ارتكبها الصرب في البوسنة، إضافة إلى عمليات الإبادة الجماعية، فقد حاول مقترفو الجرم (الصرب) تدمير شعب، بمحو جميع السجلات وآثار الماضي، من خلال محو الآثار المادية للوجود الإسلامي، وحرق مكتبة بريشتينا مثلاً، التي كانت تضم آلاف المخطوطات عن تاريخ البلاد. تؤكد المؤلفة على أننا عندما نتحدث عن الحداثة فنحن نشير إلى مرحلة تطور الثقافة الغربية في ما بعد عصر النهضة، وهي مرحلة شهدت تحدياً للنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العتيقة. فقد أتاحت القوة المحركة التي دفعت الحداثة إلى الأمام، ونقصد هنا آلة الطباعة، الوسيلة لتفتيت الهيمنة الدينية. كما أتاح انتشار موارد الطباعة، وما أعقبه من انتشار المعلومات، ازدهار العلوم والتكنولوجيا، وتطوّر أفكار جديدة عن النزعة الفردية وحقوق الإنسان، وبروز وحدة تعريف مستحدثة لهوية الجماعة، وهي الأمة، وفق ما أشار إليه بندكت أندرسن في كتابه حول «الجماعات المتخيلة»، وقد فتحت النزعة القومية الباب أمام تطور المجتمعات المدنية والتصنيع، ومزيد من الانتشار للمعرفة بالقراءة والكتابة، بيد أن النزعة القومية نحت منحاً خبيثاً عندما تحولت وجهتها في بعض البلدان، من تطابق الهويات إلى ادعاءات بالاستحقاق وفرض أيديولوجيات أضفت على السياسة قداسة التفويض الإلهي. وصار إقصاء أي فرد أو عضو في جماعة تنتمي إلى فئة الأعداء أمراً محتوماً، ليشمل لاحقاً تدمير ثقافة جماعات بشرية بأكملها. في هذا السياق، تأتي على ذكر حادثة قد تبدو طريفة بعض الشيء، رغم خلفيتها المأساوية.
ففي عام 1987، نظفّت قوات في قاعدة تابعة للجيش السوفييتي في ليتوانيا مستودعاً، وأُفرِغ في حقل مجاور عدد كبير من الكتب النادرة التي نُهِبت من مكتبة نبيل بروسي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكان من بين هذه الكتب نسخة فيتنبيرغ (مدينة في شرق ألمانيا) للكتاب المقدس ترجع إلى عام 1534 (أول نسخة من ترجمة مارتن لوثر للكتاب المقدس إلى الألمانية)، ونسخة أولى من خرائط ميركاتور لأوروبا الغربية، ومجلد يرجع إلى عام 1785 يضم رباعيات وترية تحمل إهداء موزارت إلى هايدن. وبعد مرور عام تعرضت فيه هذه المقتنيات للمطر والثلوج، ما دفع أمناء مكتبة ليتوانيين إلى الطلب بكثير من الخوف السماح لهم بإنقاذ هذه الكتب، أو ما تبقى منها، فما كان من الضابط إلا أن ردّ عليهم بالقول: «هل تريدون هذه الكتب القديمة؟ خذوها، ليست إلا كومة نفايات».
ما الرابط بين إبادة الكتب والعنف السياسي؟
في ظل الأنظمة السياسة الاستبدادية والمتطرفة، يُنظر إلى المكتبات بوصفها مؤسسات تضفي الشرعية على السلطة الحاكمة عن طريق غرس المعتقدات والقيم القومية، ولذلك ترى نوث أن إبادة الكتب لا تقتصر على حرق الكتب وإقفالها، وإنما التدمير يتم في فترة السلم التي تسيطر فيها هذه الأنظمة ويتراوح بين أعمال الرقابة على المطبوعات، وهي تُعدُّ أولى مراحل الانزلاق لعمليات إبادة الكتب، إذ تحدث فيها مجانسة وتوحيد للخطاب القومي، وتُمارس فيها الرقابة على المكتبات العامة، وربما هو ما كنا نعثر عليه في سوريا مثلاً. فواجهات المكتبات تقتصر على كتب التاريخ المؤيدة للرواية الرسمية، حول بداية تشكيل سوريا المعاصرة، ولذلك فإن غالبية المكتبات الجادة والقليلة كانت تلك التي تأتي بالكتب تهريباً من بيروت إلى دمشق، إذ كان مجرد وصولها هو شكل من أشكال المقاومة لسياسات وزارة الثقافة السورية والنظام في عالم الكتب. وربما بعد 2004، أخذ النظام يتغاضى قليلاً عن وضع أغلفة كتب، مثل دار الريس (التي عُرِفت بمذكرات عدد من السياسيين السوريين)، على واجهة بعض المكتبات، مثل مكتبة فندق الشام في وسط المدينة، وربما لم يكن الأمر ناجما عن قلقه السياسي أو حالة من الانفتاح بمقدار ما كان يعكس، ربما رؤية أخرى للكتب بوصفها جزءا من عالم السوق، الذي يُسمح له أحياناً ببيع الكتب حتى لو خالفت رؤية النظام، فهي لا تُعدُّ سوى كلمات مثقفين لا تخيف النظام الجديد، وشبكاته الاقتصادية، مقارنة بأيام الأب وشبكاته الحزبية والعسكرية. بيد أن سياسات الرقابة عادت بعد الحرب لتفرض نفسها من جديد، وهذا ما يتّضح اليوم، من خلال جولة سريعة على بعض عناوين دور النشر التي بقيت في سوريا، فبعضها انساق وراء سردية النظام، إما بشكل مباشر عبر نشر دراسات حول المؤامرة، أو عبر الالتفاف على الواقع السوري وأسئلته، أو الإجابة عنها بشكل غير مباشر ( وهو أسلوب كان متبعا قبل الحرب) من خلال إعادة طباعة كتب وترجمات للأدب العالمي، أو من خلال تبني كتابات ونصوص تظهر وكأن البلاء هو في فهم النصوص الدينية، وهو ما بدا مؤخرا من خلال العكوف على إعادة طباعة ونشر كتب فراس سواح وأدونيس، كما في مثال دار التكوين. وهناك بعض دور النشر، مثل دار الفكر، فضّلت الانشغال بكتب حول السيرة النبوية، أو نشر كتب حول بعض مشاهير وأعلام مدينة دمشق، في سبيل الاستمرار وعدم المحاسبة، خلافاً لمشروعها الجاد في سنوات ما قبل الحرب، وبالأخص سلسلتها حول حوارات لقرن جديد، التي ضّمت يومها مشاركة أهم المفكرين والمثقفين العرب. بيد أن هذا الاستمرار، لم يمنع من أن يعيش عالم الكتب والمكتبات في سوريا إبادة مادية ورمزية في أكثر من جانب.
ختاماً، وقبل أن أنهي الحديث عن مفهوم «إبادة الكتب»، لا بد من الإشارة إلى أن نحت هذا المفهوم أو النظر لما حدث، بوصفه جزءا من مشروع إبادة تعرّض له عالم الكتاب السوري والعربي خلال العقود الأخيرة، وازداد في سنوات الحرب، قد يعني ضرورة أن يتم إدماجه في أي مشروع للعدالة الانتقالية، وإعادة الإعمار في سوريا بالأخص. وهذا قد يتطابق مع فكرة الأنثروبولوجي الهندي أرجون أبادوري حول «الخيال السيسيولوجي» الذي يتيح للناس العاديين التفكير بشكل مدينتهم وبطريقة بنائها بعد تعرضها للدمار أو للتغير؛ إذ يعتقد أبادوري أنه حق أساسي لهم. وفي حال عملية إبادة الكتب، يبدو أننا بحاجة إلى توسعة مجال خيال إعادة الإعمار ليطال عالم المكتبات والكتب، بحيث تكون في هذه المشاريع أماكن للقراءة وبيع الكتب، والأهم من ذلك برامج لدعم أصحاب مهنة صناعة الكتاب في سوريا، وربما هذا وحده الكفيل بإزاحة إرث من الإبادة المعرفية التي عاشها السوريون لعقود عدة.
القدس العربي 7 أيلول/سبتمبر 2019