تداركت عمليات جيش العزة وهيئة “تحرير الشام” الخطأ الذي تسبب تراجعها في الهجوم السابق على محور تل ملح والجُبين عندما علق مقاتلوها في حقول الألغام التي زرعتها قوات النظام على خط الجبهة وفي طرق إجبارية للمهاجمين يفترض ان يعبر فيها أي مهاجم. حيث استفادت الفصائل من الإطلاع على خرائط الألغام بعد اقتحام نقاط قوات النظام سابقا والتثبت من الطرق الواجب تجنبها والأخرى السالكة أمامهم، فسلكوا طرق النظام نفسه خلال عملية الاقتحام.
وشكل دخان حرائق المحاصيل الزراعية غطاء للمهاجمين حال دون دقة إصابة الطيران الروسي لأهدافها بدقة. ومن الملاحظ كذلك، اعتماد المهاجمين على الدراجات النارية بشكل كبير للوصول إلى نقاط الاشتباك والالتحام مع قوات النظام بسرعة كبيرة مستفيدين من عدم ارتفاع الدراجات وصعوبة رؤيتها في أراضي القمح التي لم تحصد.
وهاجمت قوات النخبة في جيش العزة قوات النظام في تل ملح الواقعة على طريق محردة-السقيلبية وتقدمت سهمياً باتجاه كفر هود غرباً وسيطرت عليها خلال ساعات قليلة بعد سقوط تل ملح وأصبحت طلائع قوات العزة على مشارف الأحياء الشرقية لبلدة التريمسة، شدة المعارك وسرعة التقدم أرعبت المدنيين ودفعتهم إلى النزوح غربا إلى الصفصافية خشية انتقال المعارك إلى بلدتهم.
إلى الشمال من تل ملح، هاجمت “تحرير الشام” في الجبين وسيطرت عليها وحاولت قطع طريق الإمداد الذي يغذي قوات النظام وميليشيا “قوات النمر” في الشيخ حديد وكرناز وكفرنبودة وباقي المناطق التي تقدم إليها في الأسبوع الأخير في القصابية وجوارها من خلال السيطرة على جلمة. وهدفت الفصائل المهاجمة إلى إرباك صفوف قوات النظام عبر ضربها من الخلف.
وتجنبت هيئة “تحرير الشام” الهجوم على تل الحماميات الذي يعتبر قاعدة كبيرة للنظام ومرتفعة ترصد ناريا قرية الحماميات شبه المدمرة والواقعة أسفل التل من الجهة الجنوبية، الأمر الذي حال دون قدرة قوات النظام على استهداف آليات الفصائل المهاجمة بالصواريخ الحرارية المنصوبة على التل، بل تقدمت الفصائل في الطرق الزراعية انطلاقاً من بلدتي الأربعين والزكاة باتجاه تل ملح والجُبين.
ونجحت فصائل “جيش العزة” وهيئة “تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير” بإحاطة العملية بسرية كاملة مع بدء المرحلة الثانية من العملية التي أطلقت عليها “الفتح المبين”. ورغم التحفظ الكبير إلا أنه يمكن توقع التكتيك الذي سيتبع في الأيام المقبلة إذا ما استطاعت الفصائل تعزيز المناطق التي تقدمت إليها.
ومن المرجح أن هدف الفصائل الأول هو استعادة المناطق التي خسرتها الشهر الماضي وتقدم فيها النظام. لكن التقدم إلى كفرهود ليل الخميس الماضي والوصول إلى أطراف التريمسة يدل على أن هناك خطة للتقدم إلى مناطق جديدة، فتوسيع محور الهجوم إلى بلدات التريمسة والصفصافية وتل سكين وهو مما يكشف رغبة في التقدم إلى جب رملة وسلحب وهما القريتان العلويتان بهدف الضغط على النظام والروس لوقف العملية العسكرية في حال هُددت مناطق حاضنته الأساسية في سهل الغاب والتي تعتبر أيضا خزاناً بشريا لميليشيا “قوات النمر” إضافة إلى رغبة الفصائل في إبعاد شبح مطار جب رملة العسكري الذي أُحدث مؤخرا كقاعدة للطيران المروحي ومنه تنطلق الطائرات المروحية التي تقصف البراميل المتفجرة قرى وبلدات ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي بسرعة كبيرة بسبب قرب المطار من أماكن الاستهداف. كما أن للهجوم في هذا المحور عامل نفسي ضاغط على مقاتلي “قوات النمر” على اعتبار انهم يهاجمون شمالا فيما فصائل المعارضة تقترب من قراهم وبلداتهم.
وفي حال نجاح “الجبهة الوطنية” في إحراز خرق ما على الجبهة الشمالية بين القاروطية وميدان غزال فهذا يعني تخفيف الضغط على المحور الشرقي بالقرب من كرناز على “تحرير الشام” وجيش العزة وتشتيت قوات النظام.
ومن المرجح أن ينعكس فشل المفاوضات الروسية التركية حول شمال غرب سوريا على سير المعارك، فعدم استجابة موسكو لرغبة أنقرة في وقف القصف والعودة إلى تطبيق “اتفاق سوتشي” يؤدي بالضرورة إلى اشتداد المعارك ومحاولة تطبيق الشرط التركي في انسحاب النظام إلى حدود ما قبل هجوم أيار (مايو) الذي رفضته روسيا في آخر جولة مفاوضات عبر غرفة التنسيق المشتركة في أنقرة.
من جهة أخرى يعزز الموقف الأمريكي الدور التركي سياسيا في إدلب بعد تصريحات المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري في مقابلة مع صحيفة “حريت” التركية يوم الخميس الماضي، حول الموقف من النظام السوري و”العمل بين أمريكا وتركيا من أجل تغيير نظام بشار الأسد، وإنهاء الصراع العسكري في سوريا وإنشاء لجنة دستورية” معتبرا “أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب هي خفض المواجهات العسكرية”.
ويدفع فشل المفاوضات تركيا إلى زيادة دعمها لفصائل المعارضة السورية لإجبار روسيا على الاقتناع ان كلفة القصف البري ستكون مرتفعة للغاية عليها وعلى نظام الأسد. وأن الحسم على الطريقة الروسية انتفت أسبابه المساعدة سابقا في باقي المناطق.
بالمقابل فان تجارب الحروب الروسية تشير إلى أن لدى موسكو نفس طويل على تحمل أعباء وكلف الحرب والانتظار طويلا حتى تحقيق نتائجها، وأنها لن تقبل بالتراجع دون تحقيق هدف حماية مطار حميميم على الأقل وهذا لن يحدث بدون السيطرة على كامل سهل الغاب ومنطقة جبل شحشبو والسفح الغربي لجبل الزاوية.
كل هذه التداخلات تؤشر إلى أن الحرب أخذت شكلا جديدا يمكن وصفه بحرب الاستنزاف الطويلة والتي لن تتوقف قبل تغير المعادلات الإقليمية في المنطقة أو التوصل إلى صفقة جديدة بين أمريكا وروسيا. وعليه على المعارضة السياسية والعسكرية البحث في كيفية الحفاظ على أرواح ثلاثة ملايين مدني في شمال غرب سوريا في ظل قصف روسي لن يتوقف أبداً.