جسر – صحافة
على الرغم من محاولة البعض التقليل من أهمية القرار الذي اتخذته تركيا بإغلاق مجالها الجوي بوجه الامدادات العسكرية الروسية الى سوريا، والقول إنه مجرد إجراء روتيني كان مقرراً ان يُتخذ أصلاً مع انتهاء الاذن الممنوح للجيش الروسي باستخدام المجال الجوي التركي في التنقل الى سوريا، إلا ان الإعلان عنه في هذا التوقيت يجعل من القرار مهماً وخطيراً جداً.
كان بإمكان تركيا اتخاذ هذا القرار وتبليغ الروس به دون ضجيج إعلامي، الا ان التصريح عن هذا الإجراء رسمياً من خلال إعلان وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو عنه مستخدماً الدبلوماسية الناعمة للتخفيف من وقع القرار، فضلاً عن تبليغ الوزير التركي نظيره الروسي لافروف الذي بدوره أخبر بوتين، ما جعل الأخير يقرر بالقول: “لن نطير بعد الان”، يوضح بأنه لدى تركيا هدفاً مهماً من الإعلان رسمياً عن هذا الاجراء بإيصال رسائل لروسيا والغرب.
القرار الذي يعتبر الأقوى والأجرأ الذي تتخذه انقرة تجاه موسكو منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، لا يمكن اعتباره حدثاً عادياً، فلو نظرنا اليه في العمق سنجد انه ربما هناك تطورات ومستجدات جديدة ومختلفة قد حصلت تجعل العلاقات والتقارب الروسي-التركي الذي ساد طيلة ست سنوات مضت، أمام منعطف تاريخي جديد لدرجة انه يمكن القول ان ما بعد هذا الإجراء ليس كما قبله.
لعل أي حديث عن تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا يبقى محدود التصور وغير قابل لان يكون مطلقاً، ولئن كان يمكن التحدث بدقة عن الآثار الميدانية لهذه الحرب، لكن يبقى الحديث عن تصورات دقيقة للتداعيات السياسية غير قابل للدقة ذاتها، ذلك ان التداعيات السياسية والاقتصادية أكثر امتداداً واتساعاً من الوقائع الميدانية للمعارك العسكرية.
لعل ما هو مهم ان هذه الحرب لم تؤثر على تحالفات روسيا السابقة فحسب، بل ربما بدا تأثيرها الأكثر خطورة يكمن بالتحالفات الجديدة التي بدأ بها خصومها، ونعني بذلك عودة الإدارة الأميركية لرسم تفاهمات جديدة مع دول المنطقة، وذلك وفقا لما تراه يخدم إضعاف الموقف الروسي، ولعل ابرز هذه التفاهمات، محاولة ترميم علاقتها مع تركيا الحليف القديم الجديد، هذه العلاقة التي تعرضت لتصدعات عديدة كان ابرزها اقدام واشنطن على التنسيق مع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في 2015، ومما عزز هذه التصدعات عدم التزام واشنطن باتفاق 2018، الذي كان يقضي بإخراج قسد من مدينة منبج، بالإضافة لخلافات كبيرة بين الجانبين في ملفات متعددة ابرزها صفقة صواريخ إس-400، وطائرات اف-35، وقضية فتح الله غولن.
لكن مهما اتسعت الهوة بين الطرفين فان ذلك لا يمنع من عودة العلاقات اذا اقتضت الضرورة، وبالفعل ربما ترى واشنطن أن الضرورة قد أوجبت العودة للحليف التقليدي، وذلك ضمن سياق رؤيتها ومصلحتها بإبعاد تركيا عن روسيا، ولو كان هذا الابتعاد تدريجياً اكثر من كونه قطيعة مباشرة، اذ لا يمكن للمتابع ان يتجاهل الزيارة التي قام بها قبل أيام وفد من الكونغرس الأميركي برئاسة السيناتور ريتشارد شيلبي الى تركيا، والتقى مع نائب وزير الخارجية سادات أونال، ومتحدث الرئاسة التركية ابراهيم قالن، لتحسين العلاقة بين البلدين، والتي تحدث عنها القائد السابق للقوات الأميركية بن هودجز، إذ أدلى بكلام ربما يكون مفاجئا بصراحته وجرأته واعترافه بخطأ السياسة الأميركية حين دعمت الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، على حساب تركيا الشريك في حلف الناتو.
لا شك ان هذه التصريحات تعبر بشكل لافت عن اعتراف أميركي صريح بقصر نظر سياسي من جهة، كما تعبر عن رغبة أميركية بعودة العلاقات الحميمية بين واشنطن وانقرة من جهة أخرى، رغبة تمليها ضرورات راهنة لعل في طليعتها إضعاف الموقف الروسي، بل وتقويض مجمل التحالفات التي بناها بوتين مع شركاء اقليميين في المنطقة.
سياق الاحداث الراهنة يعد مناسباً بل مساعداً حسب الرؤية الأميركية لتوسيع الشرخ القائم بين روسيا وتركيا، ذلك انه يمكن التأكيد على ان مظاهر التوتر بين موسكو وانقرة تتخذ طابعا تصعيديا واضحا على الساحة السورية، ربما كانت البداية من غض الطرف الروسي عن استهداف ميليشيا قسد المتكرر لمناطق النفوذ التركي، والتي كان آخرها استهداف عربة نقل جنود للجيش التركي بصاروخ موجه روسي الصنع في مدينة مارع أدى لمقتل جنود أتراك، فضلاً عن التصعيد الروسي الجوي في الأيام القليلة الماضية والذي استهدف بلدة الكبينة في ريف إدلب وكذلك استهدف قرى وبلدات في ريفي حلب الغربي والشمالي.
روسيا تحاول استيعاب القرار التركي وألا تنقل الخلاف على العلن، ذلك ان بوتين يدرك جيدا ان فتح أي صراعات جديدة ليس في صالحه، وربما كان تجاهل روسيا للموقف التركي يخفي أملاً روسياً ببقاء تركيا حليفة، خاصة ان تركيا حتى الان هي من الدول القليلة التي لم تتخذ عقوبات بحق روسيا، بل ربما ما زال الاتراك يفضلون دور الوساطة، لأنه رغم وجود بعض القضايا الخلافية بين موسكو وانقرة الا انها تبقى قابلة للاحتواء طالما ان ثمة مصالح ذات أولوية بين الطرفين تتقدّم على تلك الخلافات.
ربما كان من الصعوبة بمكان تلمُس ملامح محددة في السياسة التركية المستقبلية، الا انه يمكن التأكيد ان انقرة تخوض هذه التجاذبات بين موسكو وواشنطن بحذر شديد، فكلا الدولتين خذل انقرة بمواقف عديدة سابقة، وان كانت تركيا لا تريد ان تبقى محكومة بأحداث الماضي ولكنها بالتأكيد تريد ان تخطو خطوات سياسية مضمونة النتائج. هذا النهج الحذر في السياسة التركية تجلى واضحا حيال موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية إبان انطلاقتها، اذ كان الموقف التركي يتخذ جانب الحياد بعض الشيء، الا ان تعثر بوتين في الوحل الأوكراني قد أتاح لتركيا الابتعاد عن الحياد ولو تدريجيا وربما سيكون هذا الابتعاد بوتيرة اسرع كلما اوغل بوتين اكثر في هذا المستنقع، وهنا تأتي الفرصة مواتية اكثر للجانب التركي لاختبار الخطوات الامريكية الجديدة.
ولعل السؤال المهم: هل كانت العمليات العسكرية التركية شمال العراق (قفل المخلب) التي تستهدف حزب العمال الكردستاني، واستهداف مواقع قسد وقياداتها في سوريا، تندرج في سياق اختبار النوايا الأميركية، وهل كان السكوت الأميركي عن هذه العمليات بمثابة رسالة لتركيا تنبئ بتغيير الموقف من حزب العمال الكردستاني ومشتقاته، وبناء تفاهمات جديدة بين واشنطن وانقرة؟
ربما تكون هذه الخطوة مرحلة استباقية لاتفاق تركي-أميركي للتضييق على الوجود الروسي في سوريا، وإعادة خلق معادلة جديدة في مناطق شمال وشمال غرب سوريا وشرق الفرات على حساب تفاهمات خفض التصعيد بين تركيا وروسيا، بحيث يتم عزل روسيا عن التأثير في الملف السوري وتوجيه رسالة لها انها لن تكون مطلقة اليد في رسم مستقبل هذه المناطق، ما يعني اننا سنشهد تصعيدا روسياً-تركياً ينتقل من مرحلة التصعيد الكلامي الى التصعيد الميداني.
تورط روسيا في أوكرانيا وشعور بوتين بالهزيمة يمكن ان ينعكس على سلوكها وردود افعالها في سوريا التي يمكن ان لا تكون منضبطة، بل وربما قاسية أحيانا، وهذا ما تدركه تركيا تماما، لذا لا يمكن لتركيا ان تتخذ هذا القرار دون الحصول على تطمينات أميركية وغربية تحول دون ارتكاب روسيا لحماقات تؤدي الى ارتكاب مجازر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، تتسبب بموجة جديدة من اللاجئين، او ربما حصلت على ضمانات بإنشاء منطقة آمنة، او تسليح الفصائل العسكرية بأسلحة نوعية ومتطورة تقوم بهذا الدور، وحينذاك تكون الفرصة مناسبةً أمام حزب العدالة والتنمية، لإعادة قسم من اللاجئين وسحب هذه الورقة من يد المعارضة في سباق الانتخابات الرئاسية القادمة 2023.
المصدر: موقع المدن