يقول ليون شتراوس:
” عند آخر تحليل، ينبغي لنا أن نفهم الـ” علمنة” (بتجلياتها الراهنة) على أنها التكيّف الذي فرضته الفلسفة والعلوم الحديثة على العقائد اللاهوتية للتلاؤم مع متطلبات المناخ الثقافي الدارج”.
لكي تكون دكتاتوراً لا تكفيك سطوة القمع وحده، القمع وحده لا يكفي. ثمّة ثلاثة مكونات جوهرية لابد منها كي يحقق النظام الشمولية.
تحتاج في البداية لعصبة لها منفعة في الحكم والقمع، وهذا دافع لم تظهر البشرية، الا قليلاً، أي تردد في الانسياق خلفه.
وتحتاج أن تمتلك من مصائر الناس بما يجعلهم لا يرون لأنفسهم أي مستقبل في العيش إلا من خلال الانصياع، وبحيث يكون كل حق لهم تقبض عليه، ثم تمنحهم قطرات منه، عطاء ومنحة، وتكون هي فرصتهم الوحيدة في الحصول على شيء الحياة، وان تكون تكاليف معارضتك كبيرة جداً، على فرصهم في الحياة إلى الحد الذي يجعلهم لا يفكرون في التمرد، ليكون الانصياع ممرا اجباريا كي يتنفسوا ولو قليلاً.
وأهم ما تحتاج إليه هو رواية، سردية، يوتوبيا، تحتاج لبئر عميق من اساطير التفوق والمظلوميات والمقدسات، والحق الموعود، كي تكرس وهم الأمل بسعادة أو تفوق ما، في نهاية النفق.
سأكتب هنا عن هذا الشرط، أي المكون الثالث للشمولية. عن ذلك البئر العميق من الاساطير والاحقاد والاوهام والاحلام الزائفة، والامجاد السالفة والموعودة، التي تغرف منها قوى الاستبداد والظلام والتدمير لتشكل وتبرر خطاب الكراهية.
وسيكون من الجيد أن نكتب لاحقاً عن كيف تتخادم هذه السرديات في تجديد بعضها البعض، وفي تكريس بعضها البعض أيضاً، إذ لا سردية إلا بسردية مضادة، أساطير وأساطير مضادة، لتكون هذا النهر المتلاطم من الدماء والدمار الذي قد يبدو ضروريا من منطق العمى والعبثية التاريخية.
إن الصراع الراهن للأفكار في العالم بأسره لا يزال يدور حول سؤال قديم بقدر ما هو حديث، في سياق محموم يدعي فيه طرف من الأطراف أن ما يجري وما سيجري في هذا العالم “السفلي”، لا يمكن فهمه إلا باعتباره مرحلة عابرة نحو ثورة عارمة، ونحو يوم مظفر يؤول إليه البشر وتنتهي فيه كل الصراعات والشرور ويتحقق الخلاص النهائي.
الثورة الفرنسية كنقيض للإصلاح
الخلاص “الثوري” كنقيض للتحرر عبر الإصلاح التراكمي، تتصوره كل من هذه العقائد على طريقتها كجنة أو كجمهورية أفلاطون، أو نتاج لحتمية تاريخية ما، هو الذي سيصبح، في منطقها، الهدف النهائي للتاريخ، وهو الذي سيعطي المغزى لكل أحداث العالم، بحيث يعتبر ديدن الحراك التاريخي والسلوك العام للشعوب والأفراد هو تسريع تحقق الخلاص البشري على هذا الطريق.
تمتد هذه السردية على مجمل التاريخ العام للعالم، ولكن بشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط، حيث ينمو الصراع دون توقف، في حرب أهلية مستمرة لم تنته.
الثورات
عبر مسيرة القرون الخمس الماضية، وخاصة القرنين الأخيرين، يمكننا القول أن تاريخ العديد من الثورات التي قلبت وجه العالم، يتطابق بالضبط مع تاريخ صعود سرديات الإيمان، سواء ببعدها الديني أو الدنيوي، أو بترافق مع الإستئثارية والاقصائية في تشكيل هذه الصراعات وانتاجها وفي تطورها على حد سواء.
لكن هذه الصراعات قد خلفت في منطقتنا ركاماً هائلا من الشظايا والنفايات السياسية والفكرية بل صارت بدورها أشبه بوحوشٍ مهولة في صراعها حول مآل رؤيتها الاسطورية الكونية، التي تحاول فرضها عبر نهش ملايين الجثث البشرية في دراما وحشية، مدمرة ورهيبة.
قد تبدو العقائد السياسية المختلفة التي صعدت أو هبطت في القرنين الماضيين، عقائد لا ايمانية أو لا دينية، أو قومية أو كونية دنيوية، قد يقال بأنها تمثل قطيعة مع الفكر العقائدي والتبشير الديني، إلا أن شيئاً من التمحيص في مسارها وخطابها وآليات عملها وبنيتها المؤسساتية لا يترك مجالاً للشك بأن لوثة التبشير تسود منطقها من خلال الترويج لقدرتها على إحداث تبديل جذري، في طبيعة البشر وجوهر علاقاتهم ببعضهم.
فمن خلال القول بأن البشرية على عتبة انعطاف هائل ستصنعه هذه الإيمانات الدينينة أو “العلمانية “، وبأن هذا الانعطاف سيغير وجه علاقة البشر ببعضهم البعض، ويبدل علاقتهم بالكون وموقفهم من العالم. والقول بأن تحقيق ذلك قريب المنال ولا يحتاج إلا لنخبة من العقائديين الواعين “المكافحين” و”الأشداء” التي اختارها التاريخ الذي يقرع أبوابه الحلم الوشيك بالخلاص النهائي.
صحيح أن العقائد العلمانية نمت على خلفية أفكار معادية للمؤسسة الدينية، مع صعود الفكر التنويري في أوربا، بدأً من الفكر الانقلابي للثورة الفرنسية وطفرة اليعاقبة. الا أن مفكريها الذين طالما ادعو أنهم يستخدمون معطيات العلم لتأسيس مجتمع العدل المساواة، كانوا يخلصون دوما إلى استنتاج بأن الدراما والدماء كانت مبررة مقابل الأمل الموعود.
لم تقم النازية بشيء مختلف، فلقد ادعت بدورها أنها تستمد عقيدتها من العلوم الحديثة لتبرير وحشيتها وجرائمها منقطعة النظير.
ثم جاءت الحركة الشيوعية لتبرر بالحتمية التاريخية تلك التكلفة الانسانية والحضارية والمجتمعية الهائلة، التي بشرت بها العقيدة الشيوعية بنسخها المختلفة. لكن الحتمية التاريخية لم تحصل، ويبدو أن الحتمية الوحيدة التي يعلمنا إياها التاريخ، هي أنه لا ينصاع لتباشير العقائديين، وأنه يرفض الانصياع لأية ايديولوجيا أحادية الرؤية والبعد.
لا تستطيع جميع هذه العقائديات أن تنجو من حقيقة كونها مشاريع تدعي أنها ستضمن “الخلاص النهائي ” الأوحد الناجز للبشر و”بضربة واحدة من نخبة فذة متفوقة” كنخبة مصطفاة من البشر.
لا تستطيع ان تنجو من حقيقة انها جميعاً تدعي بأن العالم يوشك أن يتحد تحت ظل نظام عالمي أوحد، يوحد نمط حياة كل البشر في السياسية وفي الادارة الاقتصاد، بل ويوحد، قبل كل شيء، قيمه الروحية والثقافية في قالب ايديولوجي واحد. لكن في حقيقة الامر، إن هذه الايمانيات الكارهة، لم تخلف الا الدمار والقتل.
هذا القول لا ينتقص بل يكرس، لا يفترض أن مشروعية وتاريخية الحركات التحررية، سواء منها الذي اتكأ على العصبيات الوطنية الدينية أو “العلمانية”، هي في سعيها لحشد القوى لكفاح وطني لحماية قومها وشعبها أمام عدو غاشم لا يقل عنها عقائدية ويحاول فرض رؤيته الذاتية لخلاص نهائي.
فليست اللوثة في مجرد الايمان بفكرة ما، ولا هي في الاعتقاد بحلم كبير يمكن أن يجمع البشر في اطار ارتقاء لا متناهٍ للجنس العاقل، بل إن اللوثة والجرثومة تكمن في الاعتقاد بأن ما نعتقده، بل ما نحلم به نحن، هو نهاية الحقيقة بعينها، وأن الكراهية لخصوم هذا الحلم يخولنا بالتالي ان نستبد، وأن نحاول فرض فكرنا الأعمى على العالم مهما كلف ذلك من ثمن.
هل ثمّة من يعتقد اليوم بأن مئات الآلاف من البشر الذين قتلوا على يد اليعاقبة، وملايين البشر الذي قتلوا على يد هتلر او ستالين او ماو تسي تونغ أو بشار الأسد، انما قتلوا لأهداف سامية، أم أنهم قتلوا لأهداف هي بعيدة كل البعد عنها. ( تقدر السلطات الصينية بأن الثورة الثقافية قد كلفت ما لا يقل عن ثمانين مليوناً من الضحايا، وفي كمبوديا يصل عدد ضحايا “الثورة ” إلى المليونين ( بما يعادل 10% من السكان، وتقدر ” الكلفة ” البشرية لعدوان القوات الأمريكية في العراق بما لا يقل عن مليوني شخص).
مشرب ومصدر ومبرر خطاب الكراهية، هو منطق قلب التاريخ، منطق افتعال حركة التاريخ، بل هو ذلك الايمان “الكفاحي” الذي يفسح المجال لنخب خطاب الكراهية والاقصاء، بأن تدفع الصراعات نحو أتون حروب اجرامية بذريعة تحقيق قيامة، أو حتمية تاريخية ما.
من هنا أن نلاحظ، أن هذه العقائد على مختلف مشاربها، وعلى الرغم من الصراعات والدماء التي سالت فيما بينها، تشترك في غالبيتها، بأنها قسمت مقاصد التاريخ الكوني والقومي إلى ثلاثيات، وقطّعوا الايمانيون التاريخ لثلاث مراحل.
في مراحل متأخرة قسم حكماء الاحبار اليهود التاريخ إلى زمن ثلاثي: زمن ممالك بني اسرائيل، وزمن الدياسبورا (زمن الشتات)، وزمن مملكة “اسرائيل ” التي ينبغي تأسيسها مع عودة الشعب اليهودي لفلسطين لبناء الهيكل. واعتقدت بعض الطوائف اليهودية بقرب عودتها إلى اورشليم لإعادة بناء الهيكل ( التي اعتبرت مهرطقة في حينه) وقالت بإن العالم على وشك الانتهاء، وأن مملكة الله الجديدة على وشك التحقق، لتسود الوفرة غير المحدودة، حيث يلتحق المؤمنون جميعاً بعالم خالٍ من الشرور.
ويعود جزء هام من القبول الذي لاقته الفكرة المسيحية في بواكيرها، لإرهاصات هذا الحراك في أوساط نخب يهود فلسطين.
لذلك كان من الطبيعي أن تسود لدى المسيحيين الأوائل فكرة قرب نهاية الزمان، حيث كان يفترض أن تنتهي معه آلام البشر. ولم يتم تعديل هذا المفهوم حتى مجيء أوغستين لينقذ المشروع الكنسي، وليقترح رؤية جديدة تميز بين مدينة الله، ومدينة الانسان، وتقوم على مفهوم أفلاطوني يقول بأن الخلاص لن يتحقق من خلال تبدل فيزيائي للكون، ولن يتحقق كحدث فريد في المستقبل القريب، بل إنه سيتحقق من خلال كونه تغييراً روحياً داخلياً، يمكن تحقيقه في أي زمان، من قبل أي فرد.
في حين أنني أجزم بأن إبليس سيبقى موجوداً بيننا حتماً كما كان موجوداً دائماً الى الابد، فلعله من الطريف والمثير للكثير من التأمل، كيف كانت الاعتقادات بانقلاب مسياني وشيك، تطفو في لحظات تاريخية معينة الأمر الذي يحتاج لأبحاث كثيرة حول الشروط التاريخية التي ترافقت بصعود العصبيات والتطرف متجسدة بأفكار ثورية مختلفة، تحملها أحزاب أو طوائف محددة بين الجماعات البشرية اليهودية أو المسيحية أو المسلمة، ولدى الحركات والتيارات “العلموية” العلمانية والقومية في القرنين الأخيرين بشكل خاص.
فهذا شعب كانت له أمجاد “عظمى” وجاء بالخير والرفاه والعدل لكل البشر، ثم جاءت فترة الظلام المديد بفضل القوى الغاشمة السوداء، اما الآن فلقد حان وقت الخلاص. ولعله من السهل أن نتفق بأن هذا ينطبق على العصبية الجرمانية والعربية والفارسية .. ألخ.
سنجد هذه الثلاثية في أحد الأمثلة الطريفة والفادحة هي المذابح التي ولدتها المحاولات التبشيرية بنهاية العالم، مشاعية مسيحية تأسست في مدينة مونستر الألمانية عام 1534، صادرت الذهب وألغت الملكية الخاصة، وفرضت ابقاء أبواب البيوت مفتوحة طوال الوقت وأعدمت كل من يخالفها، وحصرت عمل النساء في المنزل، وقتلت كل امرأة عاقة، وبشرت بخراب العالم على رؤوس الهراطقة البروتستانت، في حين ستبقى مونستر التي آمنت بالبشرى الجديدة، لتعيد لتأسيس اورشليم الجديدة.
ومن ثم، تعود الثلاثية الزمنية لتظهر في زمن الأب وزمن الابن وزمن الروح القدس حيث الأخوة الكونية بين كل البشر.
وبالرغم من أن النبي محمد كان يقول ” جئت لأتمم مكارم الأخلاق”، نافياً القطيعة مع الزمن الذي سبقه، بل اعتبر رسالته انضاجاً واكمالاً لها، وبالرغم من أن الدين الاسلامي يصر على القول بأن موعد القيامة سر من أسرار الخليقة لا يعلمه إلا الله الخالق وحده، استمر البعض في تقسيم الزمان على أساس القطيعة الكاملة بين زمن الجاهلية، والقطيعة الكاملة مع الزمن الراهن الذي اعتبر زمناً للحرب، ريثما يؤذن بالزمن الموعود زمن السلام، زمن السلف الصالح الذي ينبغي تسريع شروط تحققه، من خلال مشروع نخبة أو طائفة أو ملة من الملل الاسلامية.
وتستمر هذه الثلاثيات أيضاً لدى منتجي العقائد السياسية القومية التي تدعي “العلمانية”، وتظهر ذات الثلاثيات لدى فوريية وأوين.
في القرنين التاسع والعشرين، تعود هذه الثلاثية للصعود لدى الفلاسفة والمفكرين. فلقد اعتقد هيغل بثلاثة أزمنة ديالكتيكية لتحرر الانسانية، واعتقد ماركس، كما يوضح البيان الشيوعي بثلاثية تاريخية بدأ من: زمن المشاعية انتقالاً إلى زمن المجتمع الطبقي ومن ثم زمن الشيوعية الموعودة.
وحتى النازية التي طالما كانت تتبجح بالتحرر من الفكر الديني فإنها سرعان ما اعتبرت زمنها هو الزمن الثالث ( الرايخ الثالث) تيمناً برؤيتها الزرادشتية.
شرق المتوسط في عصرنا الراهن:
ميزة عصرنا الراهن أن السياسة فيه هبطت من حلقات النخب وفرسان المائدة المستديرة، أو النخب المحصنة للخاصة، إلى مستوى الشعب بمفهومه العام – مستوى الناس كل الناس ( The Populous)، وتعممت السياسة وتعممت الأيديولوجيا ونزلتا جميعا الى الأرض، إلى أعماق المجتمع وحضيضه. فماذا كانت النتيجة؟
أصبح العامة يتطلبون من سدنة الأيديولوجيا أن تفي بوعودها، وأن تثبت أحقيتها، وأن تبرر الاثمان التي تطالب بها الناس. صارت المنفعة هي المطلب، وليس حلم الجنان المقبلة.
جلب تنطح الانسان الفرد العامي للسياسة مأزقاً للنخب الأيديولوجية الراكبة على ركام خطاب الكراهية في منطقتنا، وصار يطالب سدنة الأيديولوجيات بتبرير خطاب الكراهية، وإن يفوا بوعودهم بالخلاص. صار الخلاص مطلباً قريبا للجمهور العام، ذلك أن الحماقة فضيلة لا يتمتع بها إلا البشر.
وبذلك دخلت منطقتنا بأسرها امام مفترق:
ففي حين يقف خلف منطقة الشرق الأوسط تراث هائل من رسائل عشرات الأنبياء والمناضلين والمفكرين الثوريين، وتاريخ طويل من حروب أهلية بين الأيديولوجيات، والأقوام، إلا أنها تعيش المنطقة بأسرها أتون صراع يدفعها نحو ثقب اسود، مع استمرار خطاب الكراهية وعنف الأيديولوجيات الطائفية أو العنصرية القومية الخ..
حقيقة الأمر أن ليس ثمة تدين في الشرق الأوسط بل ثمة طوائف، ليس ثمة دولة قومية بل كتل أقوامية، تخترع خطاب الكراهية لتبقى علي قيد الحياة، ولتحمي نفسها من الابتلاع المتبادل.
لقد نقل الدخول الواسع للمجتمع الى السياسة واشتعال هذه الصراعات إلى منعطف تاريخي. جوهر هذا المنعطف هو افلاس كل الأيديولوجيات ما فوق الوطنية، ليصير الكل ضد الكل، ولتنهار بشكل واسع النماذج المؤسسة لهذه الاحلام.
إضافة إلي ذلك انجلى نهائياً الغبار الذي خلفه سقوط الاتحاد السوفياتي، وسرعت الليبراليات الحديثة بمشاربها المختلفة انهيار أوهام الرفاه التي تعد بها الشموليات المختلفة في ظل خطاب الكراهية، وهاهي رموزها العملية تتداعى، وتتلاشى اوهامها الايدولوجية لتفصح عن فضائح فكرية وثقافية وكوارث سياسية واستراتيجية.
لكن هذه الحقيقة لا تزال موضع صراع محموم، ضد العنصريات، وضد الطائفية، صراع محموم ضد كل نظريات المؤامرة التي ليست الا تكريساً لأوهام الأيديولوجيا، صراع محموم ضد محاولات محاولات تدمير الحقيقة بمصادرها ومرجيعاتها وأدواتها. هذه النخب العقائدية تجد نفسها الخاسرة الأولى من اندثار مقومات خطاب الكراهية.
لكن شيطان الحلم الاستبدادي لا يهدأ، ذلك أن فشل التجربة هو ذاته فشلُ الفكرة الحالمة. ومن الطريف هنا ان نذكر شهادة ( كاين جيك أيف) لدى المحكمة الدولية لجرائم كمبوديا، التي عقدت مؤخراً، فـ” كاين” استغرب فكرة أن يحاكم. فرغم أنه يعلم ويقر بأن ساهم سياسياً في مقتل ما لا يقل على مليونين من الكمبوديين، وساهم مباشرة في مقتل ما لا يقل عن ستين ألفاً من مواطنيه في معسكر الاعتقال الذي كان يشرف عليه بالذات، ألا أنه كان ولا يزال يعتقد أنه فعل ذلك بهدف تغيير الانسان والمجتمع، واعادة تأسيسه بناءً على حلمه الشيوعي الفلاحي. نعم لم يشعر هذا “القائد” بالندم أبداً بل إستغرب مجرد مساءلته.
في الشأن السوري:
سألخص أفكاري هنا بشكل قد يبدو فجا وآمل أن أوضحه عبر الحوار الجدي:
اعتقد أنه يمكنني التنبؤ بأن نموذج الدولة التي نشأت على خطاب الكراهية، المؤسسة على الأيديولوجيات البعثية أو اليسارية أو الدينية المتطرفة في سوريا، هو نموذج قيد التداعي والتفكك النهائي، ليس بفضل حكمة النخب ووعيها، والتي كان من المفترض أن لا تسير خلف غوغائية العقاىد بل ان تعبد الطريق نحو تجربة تتجاوز منطق الحروب الاهلية في سوريا، بل على العكس من ذلك، ويا للأسف بفضل التجربة الباهظة الكلفة، التي تدفع ثمنها المنطقة، والتي تمثل سوريا الآن مثالها التراجيدي التاريخي.
لقد فشلت هذه الايديولجيات جميعا مع الانهيار الذريع لنموذج رأسمالية الدولة الاحتكارية، نموذج الدولة الريعية المحسوبية الفاسدة.
اذا لدينا نموذج إقليمي للدولة ينهار، وتنهار معه كل الحلول المنقوصة لمخلفات الإمبراطورية العثمانية، وينهار معها أيضاً نموذج الدولة الوظيفية الذي اسسته اتفاقية سايكس بيكو، وتنهار كل نماذج الحلول التي انتجت في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ونعود للكراهية أيضاً:
لدينا بالمقابل مظلوميات تاريخية كبرى، ولدينا جرائم مهولة، ولدينا شكوك ومخاوف جسيمة و”الكل اصبح ضد الكل” كما يقول هوبز. وامام هذا الركام الفادح الشاسع الذي ينتصب امام أعيننا نحن السوريين، نقف الآن امام لحظة حقيقة.
في دراساته حول اصل نشوء الدولة، ركز هوبز على الفوضى المجتمعية التي تحصل في حال انهيار الدولة. وفي مشرقنا تجلت الظاهرة من خلال فعل تدميري “ثوري” محلي، وتدمير غربي باسم نقل الحضارة من قبل القوى الاستعمارية من خلال ذرائع طوباوية دينية أو علمانية.
يقول هوبز أيضاً إن ” أخطر عدو للحرية هو الفوضوى “، الفوضى التي يولدها حلم اعادة تشكيل المجتمع أو الدولة. حيث يصبح كل فرد عدوا لكل فرد، وحيث تتخذ الفوضى أعنف أشكالها وحشية حين تصبح موضوعاً للصراع بين العقائد المسيانية تبشيرية دينية أو علمانية.
هذا الاعتقاد الذي روج له الكثير من الثوريين الايمانيين، بإمكان تسريع التاريخ وإمكان حرق المراحل، عبر النهوض الثوري، هو جوهر الكارثة الراهنة. فما تثبته الأحداث مرات ومرات في منطقتنا، هو أن الارادوية خاطئة، وفكرة الافتعال التاريخي خاطئة، بل وإجرامية أيضاً.
المعادلة واضحة الآن ” فلا حرب في سوريا من دون تدخل الغزاة، لكن لا سلام من دون توافق السوريين”.
إما المصالحة والرضى بالعيش المشترك فيما خطاب الكراهية الذي تكرسه الطوبايات العديدة سواء منها القومية والطائفية، وإما ان نستمر في حلول مفروضة بحكم أي ميزان قوى دولي واقليمي، لتبقى سوريا في أتون حرب أهلية مبطنة او معلنة، حرب مشتعلة أو خلاسية ، أو أن نجد مخرجا لدوامة الأحقاد والكراهية.
بعد أكثر من ثماني عقود تنازعت فيها الايدويولجيات بين الأممية الإسلامية والأممية اليسارية والقومية السورية والعربية أرض سوريا، وأودت كلها بسوريا الوطن، وسورية الأمة، وتكاد تودي مرة أخرى بأمل إعادة تشكيل الدولة، هل نريد حقاً ان نخرج من الحرب الأهلية مرة واحدة وألى الأبد، بعد عقود بل قرون من صراعات الكراهية؟ هل نريد أن يبقى ثمة وطن باسم سوريا؟ هذا هو السؤال المركزي الآن.
لقد انهار أفق إعادة تأسيس الدولة وتوحيدها ضمن أي نموذج عقائدي يستند الى خطاب الكراهية، أصبح العامل اللاحم الوحيد للأمة السورية، هو الوحدة الطوعية والجغرافيا السياسية.
١-عامل العيش المشترك: والوحدة الطوعية لكل طوائف سوريا وأقوامها. فبدون الرضى الطوعي للعلويين وللأكراد والدروز والسنة.. إلخ، لن يكون ثمّة سلم أهلي، ولن تكون ثمّة دولة. الطواعية هنا على المستوى الفردي من خلال قيم الحرية والديمقراطية والطواعية على المستوى الجمعي الطائفي والأقوامي وطريق الاعتراف بحق كل الاقوام والطوائف أن تحدد هويتها ومجالها القانوني والثقافي.
٢-ضرورات الجيو-استراتيجيا: عامل المصلحة والمنفعة في بناء الدولة. فـ “أما الزبد فيذهب جفاءً وأما مما ينفع الناس فيمكث في الأرض”. في غابر الازمان كان تجار يمحاض يقرعون باب تجار اوغاريت لتصدير بضائعهم وتجار بابل عبر طريق الحرير، وكما كان تجار حلب ودمشق يستقبلون القوافل من الشرق ويقرعون أبواب موانئ المتوسط كجزء من طريق الحرير. كانو يعبرون حدود الألهة وحدود الهويات واللغات ليؤسسوا لاقتصاد مزدهر.
سوى ذلك، هل بقي من يعتقد أن المجتمع الدولي يأبه لوحدة الأراضي السورية، وسوى ذلك هل بقي من يعتقد أن ثمّة من سيوحد سوريا، أو يثبت أي حكم فيها من خلال قوة ما يسمى المجتمع الدولي، هل بقي من يعتقد أن بإمكانه فرض حل في سوريا، بحكم تقسيمات سايكس بيكو جديد ويكرس صراعات جديدة لا تنتهي بين عقائد متجددة. رأيي أنه بعد هذا الانفجار الدرامي، لم يعد هذا الأمر ممكناً.
لا يوجد حل ديمقراطي يفرض بناءً على المتطلبات الإقليمية وحدها. وأي حلّ مفروض سيعني فرض عودة نمط جديد من الدكتاتوريات لفرضها. فشرط الديمقراطية هو الطوعية، وشرط الطوعية هو القضاء على خطاب الكراهية.
فبعد ما جرى لن يمكن إعادة سوريا إلا طوعاً، ولن تكون ثمّة عدالة انتقالية في أي حل، ولن يكون ثمّة نصر مظفر لأحد. نعم سوريا أولاً، وينبغي أن نسلخ عن الحلم السوري كل بعد عقائدي، مما هو فوق وطني، ونؤسس وطناً مبنياً على الطوعية، والمصالح الجيوستراتيجية، و سوى ذلك، لا أعتقد أن سوريا ستعود موحدة آمنة، بل قد تتشظى الى فُتات، أسوأ من الفتات الصومالي.