جسر: تحقيقات:
تطيح الأزمات الكبرى بالاستقرار الاجتماعي لأي جماعة بشرية، وتفقد تلك الجماعات شيئاً فشيئاً، عناصر توازنها الفكرية والنفسية والروحية، خاصة عندما يطول أمد تلك الازمات، كما هو الحال في عموم مناطق سوريا، ويتركز قلقها على الخشية من الوقوع تحت سيطرة القوى الأجنبية، وفقدان هوية الكيان الخاص الجماعي، وتستنفر، للحيلولة دون ذلك، كل قواها الواعية.. وأحيانا اللاواعية.
مقدمة:
يسلط هذا التحقيق الجديد من تحقيقات “صحيفة جسر” الضوء على ظاهرة تفشي”الاعتقاد” بين سكان أرياف دير الزور، الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، بدور “الجن” والشياطين في حياة الأفراد والعائلات هناك. ومع أنّ الظاهرة قديمة قدم الحضارات البشرية، ومعروفة في كافة المجتمعات، ومنها مجتمع المنطقة، إلا أن اتساع قاعدة الإيمان والتأثر بها، وتحميلها مسؤولية أحداث واقعية على نطاق واسع، صار ظاهرة بحد ذاته في منطقة شرق الفرات، وهي أحدى المناطق الأكثر تضرراً من كافة النواحي، جراء الصراع الممتد لعشر سنوات في سوريا.
منطقة منكوبة تاريخياً
المنطقة موضوع هذا التحقيق، والممتدة جغرافياً بين ثلاث محافظات سورية هي دير الزور والحسكة والرقة، رزحت تحت سلطة تميزيّة قاهرة لنظام الأسد، لمدة نحو نصف قرن، حيث حرمت المنطقة أكثر من أي منطقة سورية أخرى، من التعليم والعمل والخدمات، على الرغم من كونها تمثل “سوريا الغنية”، التي يستخرج منها النفط والغاز، وتعد المورد الأول للأقماح والقطن والمحاصيل الزراعية الأخرى في البلاد. مع اندلاع الثورة السورية، حاول النظام قمع المظاهرات بالعنف، لكن سرعان ما تسلح أهالي المنطقة وتمكنوا من طرد النظام من معظم مناطقهم، خاصة الأرياف، إلا أن تجربة “الجيش الحر” مالبثت أنْ انعطفت انعطافة حادة وخطيرة نحو الصراع الذاتي، مع اكتشاف إمكانية استثمار حقول النفط، ونشبت صراعات بين العديد من فصائله على خلفية ذلك ووفق خطوط صدع قبلية عمقتها المصالح الاقتصادية المستجدة.
في تلك الفترة ظهر تنظيم جبهة النصرة وخاض نوعاً من الصراع مع الجماعات القبلية للسيطرة على الموارد الاقتصادية، لكن موجة الصراع الأعنف جاءت مع ظهور داعش في المنطقة، و استيلاءه عليها بالقوة، وحكمها بقطع الرؤوس والتنكيل بالسكان لنحو ثلاث سنوات، ثم جاءت “الحرب على الارهاب”، التي شاركت فيها معظم القوى العظمى، لتصب جحيم اسلحتها الفتاكة على المنطقة، دون تمييز غالباً بين المتطرفين والمدنيين. ومازالت تلك القوى تحكم المنطقة بشكل مباشر أو عبر حليفتها قوات سوريا الديمقراطية، لكن دون أي استراتيجية أو خطة واضحة لإعادة بناء المجتمعات المدمرة بفعل تلك الحروب المتواصلة.
أمّا الظاهرة المعنية التي نحن بصدد تناولها اليوم، تتمثل بالاقتناع لدى السكان، بأنّ ايران ارسلت جيشاً من “الجن”، للعبث باستقرار المنطقة، وبث الفتن بين سكانها، وقد تحرّت جسر ما يتداوله السكان حول ذلك من عدة مصادر، هي: أشخاص قالوا إنّهم عانوا من الظاهرة، وجاؤوا بأدلة مادية إلى ما ذهبوا إليه، ورجل دين، يعمل فيما يسمى الرقية الشرعية، وهي مهنة تقوم على طرد الشياطين من جسد شخص “تلبسته” الشياطين أو الجن، من خلال تلاوة آيات قرآنية محددة.
ما الظاهرة ومتى بدأت؟
الشاب (أ.ع) وهو أحد من قالوا أنهم تعرضوا لهجمات الجن، قال لجسر: “تحدث لدينا هذه الأشياء من ثلاث سنوات، لكنْ لم نكتشفْ الأمر إلا مؤخراً، عندما ازدادت الحالات، وتم اكتشاف العديد من الممسوسين، الذين تحدثوا عن الأمر،”. أمّا عن سبب التكتم على هذا الأمر حتى الآن، مادام بكل هذا الاتساع، فقال الشاب:”إن المنطقة عشائرية، والتحدث بهذا الأمر شيء معيب، كما أن بعض الاشخاص يعتقدون أنهم اذا تحدثوا به لن يصدقهم أحد وقد يصبحوا سخرية للآخرين”.
وعن تجربته الخاصة يقول (ع.م)” ذات يوم فقدت نقوداً كنت قد خبأتها في منزلي، وبالصدفة بعد أيام وجدتها في مرحاض البيت مع ثياب، الملابس كانت لجيراني، ثم فقدت مصاغاً ذهبياً مخبأ في مخدة، والمخدة لا أحد يدري بها، وبعد مدة وجدنا المصاغ داخل “بالوعة” المرحاض أيضاً، فتواصلنا عندها مع أحد الرقاة، لأننا شعرنا أنّ الفعل فعل جن وليس إنس. شرحنا له الأمر، ونحن لم نكن نصدق ما يحدث في البداية، والراقي أخبرنا أنّ ثمّة أشخاص تلبسهم الجن يقومون بهذه الأفعال، وتكلم الراقي مع الجني الذي سرقنا، واخبره أنه يفعل ذلك بقصد إحداث فتنة في المجتمع”.
وأضاف أنّ معظم المسروقات يعثرون عليها في أماكن قذرة، مثل المراحيض، وحظائر الحيوانات، والأماكن المهجورة، “. وقال :”إن أحد اقاربه فقد مبلغ ٤ الاف دولار، إضافة إلى مبلغ بالعملة السورية، وكان لديهم شخص في العائلة ممسوس، فتكلم بلسان الجن، وقال لهم النقود في المكان الفلاني، وعندما ذهبوا وجدوها فعلاً، لكنها ممزقة بشكل كامل”.
ويضيف الشاب أنّ الراقي أخبرهم أنّ “هناك موجة جن عددهم حوالي ٨ مليون، باعتراف أحد الجن الذين كانوا يتلبسون أحد الأشخاص، وهم، نقلاً عن الراقي، جاؤوا من منطقة الشامية (الجهة المقابلة من نهر الفرات المتصلة ببادية الشام)، ويقودهم ١٥٠ ألف ساحر، بعد أن أرسلتهم إيران إلى المنطقة”. وأقرّ الشاب انّ ذلك لا يصدق، وأن “الناس خارج المنطقة سيعتبرونه نوعاً من التخريف، أو ضرباً من الخيال، لكن هذه الأشياء حدثت بالفعل، ورأيناها بأعيننا ولمسناها لمس اليد”.
أما الشاب (ح.ع) وهو ممن يقولون أنّهم تعرضوا لذلك أيضاً فيؤكد ماجاء به الشاهد السابق ويقول: “نخبئ الأموال والمصاغ، في مكان لا يخطر ببال أحد، او يمكنه الوصول إليه، لكن عندما نضع مع المال والمصاغ آية قرآنية أو مصحف أو نسمي عليه باسم الله، فلا يفقد، أمّا إذا رميته بشكل عشوائي فإنّ الجن يسرقه.
يقول الشاب أيضا: “سرق من عندنا مصاغ ووجدنا في حجر الحمام “التواليت”، وكانت هذه أول حالة حدثت عندنا، ولم نكن نصدق أن السارق هو الجن، وكنا نعتقد أنّ الأمر بفعل فاعل، لكن حدثت بعد ذلك حادثة أخرى، مع ابن عم لي هذه المرة، وكان يخبيء أمواله بحرص شديد خوفا من سرقتها، لكنه فجأة فقد ذلك المال، وعندما بحث عنه، وجده في حجر المرحاض أيضاً، وهذه قصص حدثت أمامي وليست من الخيال”.
أما حمد شامان، وهو راقٍ شرعي يلجأ إليه السكان لمعالجة هذه الحالات فيقول: ” إنّ حالات المس قد كثرت في منطقتهم في الآونة الأخيرة، ولا يوجد بيت ليس فيه عين (شخص أصابه آخر بالعين بسبب الحسد) أو مس أو سحر”. أمّا منْ يقف وراء هذا الأمر فيقول إنّه استقى معلوماته من عشرات الحالات من الممسوسين الذين عالجهم، “حيث يردُّ الجن لدى سؤاله من أين أتيت، بالقول: أتيت من إيران.. من قم. ولدى سؤاله من أتى معكم؟ يرد الجن بأنّه أتى معهم أكثر من ١٠٥ آلاف ساحر”. ويقول الراقي بأنّ تعداد الجن الذين “انتشروا في منطقة شرق الفرات هو، كما يقول الجن، بين ٨ إلى ٩ مليون، من الجن والشياطين أو مردة الشياطين”. أمّا هدفهم وفق الراقي، وكما أخبره الجن فهو “ضرب الناس فيما بينها، ونشر الرذيلة بين الناس، وحث الناس على الاقتتال فيما بينهم”. ويضيف الراقي:”بعد القراءة عليهم، أنطقهم الله، في البداية تكلموا فقط باللغة الفارسية، ولما طلبنا منه أن يخرج من الجسم الذي سكن فيه، ومسّه، قال لا يستطيع، وعندما سألناه لماذا لا تستطيع؟ قال أحدهم: أنا لدي ١٤ نفس، وهم عائلتي، وهم محجوزين في قم، وإذا خرجت من هذا الجسد، ولم أقم بالمهمة الموكلة لي، في هذه المنطقة، سيقضى على عائلتي”.
أدلة مادية!
يشعر كل من قابلناهم بأنّ ما يرونه لنا عصي على التصديق، ويجهدون انفسهم لاقناع الآخرين بحقيقة ما يرونه من خلال أدلة مادية وعينية. الشاب (ع.م)، أرانا مخابيء المال والمصاغ الذي سرق، وهو مخدة مغلقة قال أنّ في منزلهم منها مئة واحدة أخرى، ولا أحد يعلم أنّه وضع مصاغاً ذهبياً فيها إلا أنّ أحدهم سرق ذلك المصاغ، دون أنْ يحدث في المخدة أي شق أو خرق. أيضاً أشار إلى تجويف في مروحة سقف منزله، قال أنه خبأ فيه مصاغاً، وأنّ لا أحد يعلم بذلك سوى شخص واحد من عائلته، إلا أنّ المصاغ قد سرق، ولكي يثبت كون السارق من “الإنس”، يقول:” لو كان الأمر كذلك لتصرف بالمسروقات، هو فقط يضع أغراضنا عند الآخرين، ويجلب لنا مسروقات من عندهم، لكي يضربنا ببعضنا.. لو كان السارق إنساناً لتصرف بها، لاستفاد منها بطريقة أخرى”.
ودلنّا أيضاً على شجرة توت كبيرة، وقال بأنّ أحد الممسوسين أخبرهم بأنّ الجن يخبئ المسروقات في تجويف داخل جذعها، وأنّهم عندما لقبوها، وجودوا أنّ الشجرة مجوفة بالفعل، وبأنّ قسماً من المسروقات كان هناك.
وأضاف:” أحيانا يخبرنا الشخص الممسوس أنّ أغراضنا توجد في المنطقة الفلانية، وعندما نأتي إلى المكان نجد آثاراً فقط للغرض المفقود، لكننا لا نجد الغرض بحد ذاته، لكنْ بعد يومين أو ثلاثة، وبعد أن نفقد الأمل في العثور عليه، نتفاجأ بوجوده في المكان الذي حدده الممسوس”.
أما الشاب (أ.ع) فيقول أنّ الأغراض المسروقة، سواءً كانت ثياب أو نقود أو ذهب، نجد عليها حروق طفيفة، في إشارة منه على ما يبدو إلى يتم تداوله عن “الطبيعة النارية للجن والشياطين”.
طفلة الراقي ممسوسة!
يقول الراقي حمد شومان، “إنّ الجن يسرق بغرض الفتنة.. إنّه يحمل الغرض العائد لك، ويضعه لدى جارك”، وضرب مثالاً بعائلة (ح. ن)، التي ظهر لديها طفل “ممسوس” على حد وصفه، وعند سؤال الجني الذي يتلبسه كما يقول الراقي أجاب الجن:” أنا جئت من الحسكة”. وعندما سأله كم جنياً انتم؟، قال إنه “جاء هو وامه وثلاثة من أخوته”. واضاف الراقي أنّ الجن أخبره بأنّ “أمهم تسرق من أجلهم”.
من القصص التي يرويها الراقي، الذي يقول أنّ المنطقة تعج بعشرات الألوف من حالات المس، هي أنه “في أحد المنازل التي دعي إليها، كان يوجد طفلة عمرها ١٤ سنة، وعندما قام برقيتها، تكلم الجن، وأخبره بأنّه آتٍ من قرية من قرى إيران، وقال الجن أنهم ثلاثة أشخاص، هو وزوجته وابنه، ولدى سؤاله ما اسم ابنك؟ قال انّ اسمه “حمودة” وعندما سأله أين ابنك؟ قال له الجني:” ابني (مسّ) طفلتك”، أي طفلة الراقي ذاته، ويضيف الراقي”بالفعل أنا لدي طفلة ممسوسة”، ويضيف “عندما تكلمت، مع الجن الذي يتلبسها، وسألته من أين اتيت، قال له جئت من بقرص (قرية في ريف دير الزور الشرقي تقع تحت سيطرة الميلشيات الإيرانية ويفصلها عن الشحيل نهر الفرات). ويقول، بأنّ معظم “قادة” جيش الجن، وعددهم نحو مئة ألف ساحر، يقطنون في مدينة الرقة، إلا أنّ الجن اخبروه أيضا بأنّ “أكبر ساحر في الشرق الأوسط، يتمركز في محافظة دير الزور، وتحديداً في قرية بقرص (في ريف دير الزور الشرقي)، وقد جاء من إيران، مع الميلشيات الشيعية، لضرب الناس ببعضها، وإبعادهم عن دينهم، وبث الرذيلة والفحش بين أهالي المنطقة”.
الراقي قال:” أتاني اشخاص يقولون يطلق علي حجارة، من جيراني”، ويؤكد الراقي حدوث ذلك، ويحدد منطقة وقعت فيها هي ” …” قرب مدينة الشحيل، ويضيف أنّه عندما ذهب إلى المكان، تبين له أنّه ليس الجيران من يرميهم بالحجارة، بل”الجن”. ويذهب الراقي أبعد من ذلك، ويقول بأنّه حدث لدى جيرانه أنْ كان لديهم حفلة عرس، وعندما قدموا الطعام في صواني “مناسف”، فجأة امتلأت الصواني بالحجارة، وعندما بحثنا في الموضوع تبين أنّ الجن وراءه.
وآكد الراقي:” أنّ هذه الأحداث موجودة في المنطقة منذ القدم، إلا أنّها في الوقت الحاضر زادت بشكل كبير، ولم يعد هناك بيت إلا وفيه هذه الحالة”.”ويقدر الراقي عدد المصابين بالمس بـ “عشرات الآلاف”، ويقول أنّ الحالات لا تقتصر على مدينة دير الزور، بل هي منتشرة في المنطقة المحاذية لنهر الفرات، “من منبج )قرب الحدود التركية)، إلى بلدة الباغوز (على الحدود السورية العراقية)”.
ويؤكد الراقي ما يذهب إليه بقوله:”لدينا الكثير من نسائنا بدأن يتحدثن اللهجة الشامية (الدمشقية)، هنّ لم يذهبن إلى دمشق مطلقاً، فمن أين تعلمن ذلك؟”، ويؤكد الراقي:” أنا لدي طفلة صغيرة، بدات تتحدث باللهجة الشامية، وهي لم ترَ الشام (دمشق) ابداً، وعندما رقيتها، وجدت أنّ جنياً قد مسّها، وعندما سألته من أين أتيت، قال لي جئت من مدينة عربين، قرب دمشق!!.
الأخصائي النفسي، الدكتور محمد الجندل، وهو اساساً من منطقة ريف دير الزور، ويزاول عمله اليوم في مدينة استنبول التركية، علّق على هذه الظاهرة بالقول:”تتعرض المجتمعات البشرية إلى حالة من النكوص النفسي، كاستجابة للأزمات الكبيرة، خصوصا إذا طال أمد تلك الأزمات، يكون ذلك باللجوء لتفسير الظواهر بشكل غيبي، وقد يأخذ ذلك شكل خرافي وأمور أخرى، عادةً ماتكون موجودة ضمن ثقافة تلك المجتمعات، كالسحر وتلبس الجن في مجتمعاتنا العربية كمثال شائع”.
أمّا الدكتور عبدالرحمن الحاج، المختص بالدراسات الإسلامية، فقال:”على الرغم من أنّ الإيمان بعوالم غير مرئية، هي جزءٌ أصيل من الاعتقاد الديني الإسلامي، وبشكل خاص عالم الملائكة وعالم الجن. ولكنْ في غالب الأحيان قضايا السحر والخوارق التي لا يجد لها الناس تفسيراً يتم إحالتها إلى تلك المخلوقات اللامرئية. وتزداد ظاهرة الإحالة إلى القوى الخارقة للجن للتدخل في الحياة اليومية في المجتمعات المقهورة والمهمشة؛ إذ ْ يمكن أنْ تمنحهم تفسيراً يتيح لهم قدراً من الرضا، يعينهم على مواجهة الحياة القاسية، وهو أمرٌ لا علاقة له بالدين، بقدر ما له علاقة بالأشخاص ومحيطهم وظروفهم”.