جسر – صحافة
بالنسبة لإيران فإن سوريا هي مركز مجالها الأمني الاستراتيجي، وليس لها أن تخسرها أو أن تتنازل عن مصالحها الحيوية فيها. تعزز هذا الاقتناع الإيراني وتحول إلى عقيدة سياسية منذ اندلاع الثورة السورية، وتنبهت طهران إلى أن سوريا غير المجاورة لحدودها، يمكن أن تشهد سقوط نظامها الحليف، وبذلك ستخسر طهران الجزء الأساسي من قدرتها على التدخل والعبث في المنطقة.
منذ سقوط الشاه عام 1979، تحالف النظام الإسلامي الجديد في طهران مع النظام البعثي في دمشق، لمواجهة نظام بعثي آخر في بغداد. تغلبت المصالح المشتركة على ما بدا من تناقض أيديولوجي، لكن الأهم من المصالح كان التوافق الإيراني مع نظام أقلوي طائفي متدثر بالفكر القومي، حتى أن (تصدير الثورة) الذي أعلنه المرشد الإيراني الراحل الخميني وما شمله من تدخلات إيرانية سافرة وواسعة النطاق، طاولت كل دول المنطقة لكنها استثنت سوريا، التي تحالف نظامها (القومي) مع دولة غير عربية ضد النظام العربي بكامله.
بعد أكثر من ثلاثين عاما، وجدت إيران نفسها عالقة في مستنقع سوري لحماية استثمارها في النظام الحاكم، فقد حصلت طهران على مكاسب جيوسياسية مهمة بسبب ذلك، وهو ما جعلها تعتبر الثورة السورية منذ بدايتها تهديدا مباشرا لمصالحها، ولكامل ما سمته (محور المقاومة)، وهكذا انخرطت بطريقة شاملة في دعم النظام بالميليشيات والمستشارين والأسلحة لمواجهة الشعب السوري.
حمل العام 2015 معالم انهيار واضح للنظام السوري وحليفه الإيراني، ومن هنا بدأت حكاية التدخل العسكري الروسي، بطلب مباشر من طهران، وجهود بذلها المرشد الإيراني علي خامنئي وقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني الذي طار إلى موسكو في تموز/يوليو من ذلك العام، وقضى ساعتين في الكرملين من الحوارات والشرح على الخرائط، قبل أن يقنع الرئيس بوتين بضرورة التدخل السريع لإنقاذ بشار الأسد من سقوط بدا قريبا.
في حقيقة الامر، لم يستدع نظام دمشق روسيا، إيران هي من فعل ذلك، وبالطبع فإن طهران لم تكترث بما كان يعنيه الأمر من ازدواجية في خطابها (الثوري) الخاص بخروج القوات الأجنبية في المنطقة، فقد كان المهم هو انقاذ استثمارها المهدد بالضياع أولا، ثم يمكنها بعد ذلك ترتيب المبررات وافتعال الأسباب واستعادة النبرة (الثورية) تجاه من يريد أن يصدق الأكاذيب.
مضت سبع سنوات على التدخل الروسي، نجح خلالها في إنقاذ نظام دمشق، ورسخت موسكو لنفسها قاعدة مهمة في الشرق الأوسط، وفي أحيان معينة، تناقضت مصالحها مع إيران، حتى بات لكل منهما أتباع داخل قوات النظام وشبيحته، لكن حرب أوكرانيا تجبر موسكو اليوم على سحب جزء مهم من قواتها، وكذلك الوحدات السورية التابعة لها، لتقاتل في الجبهة الأوكرانية المتعطشة للمزيد من الرجال، لتقوم إيران بملء الفراغ الروسي.
بدأت إيران فعليا بنشر قوات واسعة من الحرس الثوري وميليشيات حزب الله اللبناني في مستودعات (مهين) العسكرية بريف حمص الشرقي، ثاني أكبر مستودعات السلاح والذخيرة في سوريا، وسيوفر هذا الانتشار أن تسيطر إيران على مناطق واسعة تمتد من القلمون شمال دمشق، ومناطق دير عطية والقريتين والسخنة شرق حمص وصولا إلى مناطق أثريا بريف حماة الشرقي وحقول النفط في جنوب الطبقة بريف محافظة الرقة.
لا تبدو سيطرة إيران العسكرية على هذه المنطقة الواسعة والحيوية، استثنائية أو شاذة عن واقع النفوذ الإيراني في سوريا منذ أكثر من عقد، لكن المهم هنا أن هذا التطور قد يكون مجرد بداية نحو مزيد من الانتشار العسكري الإيراني مع استمرار الانسحابات الروسية، وهذا سيفرض متغيرات وتداعيات مهمة في بيئة إستراتيجية وسياسية تغيرت بشكل واضح عما كانت عليه عام 2015.
سيكون متوقعا حاجة إيران بشكل أكبر للاستعانة بالميليشيات الشيعية الأجنبية، ما يفرض تداعيات مهمة قد يؤثر بعضها بشكل مباشر على الوضع السائد منذ بضع سنوات، بعد القضاء على تنظيم داعش، وفي مقدمة ذلك الاحتمالات القوية لعودة الاحتكاكات الطائفية مع السكان، لا سيما مع انحسار وجود المعارضة في تلك المناطق.
الأمر الثاني هو أن (سوق الميليشيات) ذاته لم يعد متاحا مثلما كان سابقا، فميليشيا (فاطميون) الأفغانية لم تعد قابلة للتجنيد بقوة مثل السابق، بعد رحيل القوات الأميركية، فحركة طالبان سترفض استخدام أي مواطن افغاني للقتال خارج بلاده، كما أن إيران ستواجه صعوبات في نشر الدعاية الطائفية داخل مناطق الغالبية الشيعية في أفغانستان لتجنيد المتطوعين، مثل (الدفاع عن المراقد)، حيث سيكون عليها أن تواجه رفضا من حكومة طالبان وربما خصومة وحتى عداء يتسبب بمشكلات لطهران على حدودها الشرقية.
وحتى بالنسبة للعراق، فالأمر لم يعد يخلو من تعقيدات، حيث يفرض توتر الوضع هناك، والصراع السياسي بين أبرز القوى الشيعية، مخاطر اندلاع صراع مسلح في أي وقت، وقد يكون نقل ميليشيات عراقية (ولائية) من اتباع إيران، سبباً في اضعاف هذا الجناح المسلح في مواجهة التيار الصدري، القوي عسكريا بدوره، والذي بدأ يبتعد عن الخط الإيراني.
الأمر الآخر، أن (داعش) هزمت وانحسرت، لكنها لم تنته، وما زالت تقوم بعلميات مسلحة دموية، وسيكون رحيل الروس عن مناطق سيطر عليها التنظيم في السابق، حافزاً لهم للعودة ومحاولة تنفيذ هجمات فيها من جديد.
والبيئة الإقليمية نفسها تغيرت، فالأردن يستشعر وعلى لسان الملك عبد الله مخاطر من (الفراغ) الذي تملأه إيران ووكلائها، وقد تكون بلاده أمام تصعيد محتمل على حدودها مع سوريا، مع الإشارة إلى أن الأردن سبق له وقام بتطبيع العلاقات مع النظام السوري، وقد لا يجد في انتشار إيراني بدل الروسي قرب حدوده، عنصرا مشجعا لاستمرار التعاون مع النظام، لا سيما وأن التسوية التي جرت في درعا في خريف العام الماضي، كانت بالتفاهم بين روسيا والأردن، وقد لا تكون إيران معنية بها أو راضية عنها.
ولا يختلف الأمر في لبنان، فهناك تحولت البيئة السياسية بعد الانتخابات الأخيرة، ولم تعد مريحة لحزب الله، كما أن هذا الحزب ذاته، سيواجه مشكلات تعبوية في دعم الانتشار الإيراني، مع مخاطر داخلية، وفرص لحرب إقليمية قد تشمل إسرائيل.
الأمر الآخر يتعلق بإسرائيل، فالضربات الإسرائيلية لمواقع خاصة بالحرس الثوري وحزب الله غالبا ما تركزت على مناطق محدودة غربي دمشق على مقربة من الجولان المحتل، حيث تتمركز إيران وميليشياتها بشكل خاص، وقد يكون توسيع هذا الانتشار في وسط سوريا، دافعاً لتوسيع نطاق الغارات الإسرائيلية، وهو ما تخشاه إيران، الحريصة على تجنب صراع شامل مع إسرائيل.
وأخيرا، فربما تجد المعارضة السورية في الوضع الجديد، فرصا لإعادة التحرك النشط، وحينها سيكون التحدي أعمق وأقسى أمام الإيرانيين، ولن يكون بوتين متفرغا للاستماع لشكاواهم، كما لن تجد إيران (سليماني) لإقناعه بضرورة التدخل.
المصدر: موقع المدن (صبا مدور)