جسر: متابعات:
لم يكن قرار إغلاق المحافل، الذي أصدرته السلطات في صيف 1965، مفاجئاً للماسونيين السوريين. فمنذ قيام دولة إسرائيل والأصوات تتصاعد متهمة إياهم بالعمالة للصهيونية العالمية ومحاربة الأديان والسعي إلى السيطرة على العالم عبر حكومة خفية. وكان القرار المماثل الذي صدر في القاهرة، في سنة 1964 السابقة، مؤشراً على أزمنة صعبة ستعيشها الماسونية في البلاد العربية بعد أن كانت قد اجتذبت النخب والأعيان في النصف الأول من القرن العشرين، ولا سيما في بلدان المشرق؛ مصر وسوريا ولبنان. هذا الأخير الذي قرر القطب الماسوني الأعظم فيه الانحناء للعاصفة وتجميد النشاطات الماسونية طوعياً منذ عام 1968.
لم تُحظَر المحافل فحسب، بل انهار عالمها النخبوي مع صعود الجماهيرية والشعبية إلى سدة الحكم والإدارة والحياة العامة. كان مشاهير الماسون السوريين، من أقطاب الكتلة الوطنية ورؤساء الحكومات والوزراء، قد ماتوا أو بلغوا من العمر عتياً. ومع تصاعد الدولة الأمنية هاجر من بقي منهم أو انكفأ لإدارة أعماله الخاصة المتقلصة بعد التأميم، والجمعيات والنوادي المختلفة التي كان قد أسهم في تأسيسها وعضوية مجالسها. واظب هؤلاء على علاقات شخصية وطيدة لم تتخذ، في الغالب، سمة اجتماع ماسوني سرّي. فيما حافظ بعضهم على علاقات تنظيمية في الظل مع محافل خارج البلاد، ولا سيما في لبنان الذي لم تُمنع الماسونية فيه قانونياً.
في 1990 سيفاجئ شهبندر تجار دمشق، بدر الدين الشلاح، قراء مذكراته الصادرة في كتاب بعنوان «للتاريخ والذكرى»، بصورتين له باللباس الماسوني. كانت الأولى، بالأسود والأبيض، منطقية إذ تحيل إلى مطلع الخمسينيات حين كان نشاط محفل «إبراهيم الخليل» الذي يرأسه مسموحاً وعلنياً. أما الثانية، الملونة، فتظهره عجوزاً، مما يحيل إلى التقاطها في الثمانينيات. كانت تلك صدمة، لكن الجمهور تلقاها على مراحل، إذ إن هذا الحليف التجاري الوثيق لحافظ الأسد نشر كتابه في طبعة محدودة غير مخصصة للبيع، ووزعه كهدايا للأصدقاء والمسؤولين والثقاة والإخوة من «أبناء العشيرة»، مما أخّر وصوله إلى أيدي «العامة» سنوات طويلة توفي خلالها صاحبه عام 1999.
تتيح بعض المعلومات المتوافرة الآن فهماً أفضل لسيرة الماسونية السورية في سنواتها العجاف تلك، مما يدعم محاولة أولى لكتابة تاريخها منذ منع نشاطها وحتى الآن.
فإثر توالي قرارات الحظر في الدول العربية عقد بعض البنائين الأحرار اجتماعاً لتقييم الأوضاع وإيجاد حل لطبيعة الأعمال غير النظامية التي أوجدتها الظروف. وقرروا إنشاء مرجع يشرف على تنفيذ أعمال المحافل، أطلق عليه اسم «المجلس التشريعي الأعلى للماسونيين العرب»، وهو يتكون من بضعة عشر من «الضباط» من مختلف الدول العربية، كسوريا ولبنان والأردن ومصر والعراق ودول الخليج. كما أنشئ «محفل الشرق الأوسط الأكبر» ليكون الأداة التنفيذية بيد المجلس، المسؤولة عن المحافل العاملة تحت سلطته.
ورغم ذلك لم تنجح هذه القرارات في تنشيط العمل الماسوني خلال السبعينيات والثمانينيات. حتى عقد اجتماع في سوريا سنة 1994، اقتصر حضوره على الماسونيين الموجودين داخل البلد، واتفقوا فيه على إعادة العمل بالمجلس التشريعي الأعلى وإعادة فتح محفل الشرق الأوسط الأكبر إلى أن يعود العمل بشكل علني، وأن تسلم إدارة المحفل للموجودين داخل الأراضي العربية الذين يكون عملهم تحت إشراف المجلس، غير أن الظروف لم تسمح بهذا على الدوام، فجرى مراراً اختيار «الأستاذ الأعظم» للمحفل من المهاجرين المقيمين في الخارج. وقد عرف ممن استلموا هذا المنصب في السنوات الأخيرة ثلاثة أسماء معلنة:
قسطنطين أنطونيسكو: خلال عامي 2013-2014. وهو مسيحي حلبي في الستينيات من العمر، مهاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية منذ سنوات طويلة، ومقيم في نيويورك حيث يمتلك شركة لوسائل النقل وتأجير سيارات الليموزين التي تستخدم في المناسبات. تحمل الشركة اسم Antonesco الذي اختاره قسطنطين كنية له بدل كنيته الأصلية. وترجع هذه الكنية إلى ضابط ورجل دولة روماني كان حليفاً لهتلر في الحرب العالمية الثانية. يؤيد هذا الأستاذ الأعظم النظام السوري في مأزقه الحالي، وقد ظهر في صورة مع ممثل النظام لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، في ما يبدو أنه زيارة قام بها السفير للأستاذ، دون أي إيضاحات أخرى.
“قسطنطين أنطونيسكو” (يمين) و”بشار الجعفري” مندوب “نظام الأسد” في الأمم المتحدة
إلياس زكريا حميد: (Elias De La Croix Jean) خلال عامي 2015-2016. ويشغل حالياً منصب نائب رئيس المجلس التشريعي الأعلى. في الخامسة والخمسين من العمر. اسمه الأصلي زكريا صبري حميد. يتحدر من أصل كردي في منطقة عفرين بريف حلب. كان يؤدي خدمته العسكرية في لبنان عندما اعتنق المسيحية واتخذ اسم إلياس. وإثر ذلك هاجر إلى فرنسا وأقام في ستراسبورغ. دخل سلك الكهنوت في كنيسة أوروبية مستقلة غريبة تجمع التراثين الكاثوليكي والأرثوذكسي تعرف باسم «كنيسة الوحدة»، ووصل فيها إلى رتبة أسقف قبل أن يندلع الخلاف بينه وبين بطريركها الذي ألقى عليه الحرم واتهمه بالهرطقة والدجل وانتحال الألقاب الكنسية والأكاديمية. زكريا حميد معادٍ للإسلام، ومؤيد شرس للنظام السوري، ويرتبط بعلاقات جيدة مع عدد من أبناء وحاشية رفعت الأسد الذي يتخذ من فرنسا منفى رئيسياً له. وقد ظهر في صورة مع ابن الأخير ومعتمده ريبال، التقطت في مؤتمر عن سوريا عقد في باريس، تموز 2018، ضم عدداً من السياسيين والخبراء الأوروبيين.
جمال نظير سمعان: منذ عام 2017 وحتى الآن. كما يشغل منصب رئيس المجلس التشريعي الأعلى. مسيحي من بلدة الحواش في وادي النصارى بريف حمص. يقارب الخمسين من العمر. مهاجر قديم إلى الولايات المتحدة، ومقيم في كاليفورنيا التي يملك فيها متجراً للتبغ. وهو، في المسألة السورية، أقل انحيازاً إلى النظام من سابقيه، وأميَل إلى «إحلال السلام».
قد لا يتوافق هذا المشهد مع المتخيل الجمعي عن الماسونية ذات القدرات الفائقة والخطط الخفية. ويرجع ذلك إلى أمور عدة؛ ربما كان أبرزها أن تلك الفكرة مبالغ فيها من الأساس؛ فحتى عندما ضمت الماسونية السورية نخبة من الساسة والعلماء والمفكرين والصحافيين، كانت محافلها المحلية أرخبيلاً موزع المرجعية بين محافل نيويورك وباريس ولندن ومصر وتركيا، بطقوس متعددة وتوجهات مختلفة. أما الأمر الثاني فقد يكون تراجع الماسونية عالمياً وانكفاءها عن استقطاب نخب الدرجة الأولى، وتحولها إلى نادٍ لأبناء الطبقة الوسطى التقليدية المتقادمة.
وأخيراً ربما كان ما استطعنا رصده هو فقط القمة الظاهرة من جبل الجليد التي تبدو غير براقة. وقد يكون الأعضاء المرتبطون بمحفل الشرق الأوسط الأكبر داخل سوريا، الذين يُرمز إليهم بالحروف الأولى عند الحاجة، أهم من هذه الواجهة المتواضعة التي تقدمها الحركة للعموم.
تلفزيون سوريا ٨ أيلول/ سبتمبر ٢٠١٩