#ناجيات_أم_ليس_بعد #Survivors_or_not_yet
“عندما قلت لهم هذا موقفي من الثورة، وأنا أتحمل النتائج المترتبة، لم يكن منهم إلا أن تخلوا عني، بل أعلنوا موتي أمام المجتمع بعد اعتقالي، ولم يكتفوا بذلك فقد منعوا والدتي من مقابلتي عندما خرجت من السجن، وضغطوا عليها من خلال إخوتي الصغار كي لا تقابلني، هؤلاء هم بيت جدي عائلة أبي”.
تقول وفاء نجيب ابنة بلدة يلدا بريف دمشق هذا الكلام، ولا تعرف من أين تبدأ الرواية، من لحظة اعتقالها أم تعذيبها أم من استشهاد والدها وهي في المعتقل، أم من علاقتها مع مجتمع أعلن موتها، أم من وضعها المزري وهي تعيش الآن دون مورد رزق في ريف حلب.
يأتي صوتها من خلال الهاتف متقطعاً فأطفالها حولها ولكل واحد مطلبه، تجيبهم بحب، وتعتذر عن انقطاع الاتصال عدة مرات، تقول سأرسل قصتي مكتوبة لأن الحديث عنها صوتياً يؤلمني، ولا أريد أن أتذكر، وتبدأ بالكتابة جمل قصيرة وسريعة ومختصرة، ولكن ما تلبث أن تسجل صوتها لترسله عندما تعجز عن صياغة الكلام، ربما تكون تلك محاولات نسيان أو تناسي لكنها تقر بأنها لن تنسى، إلا أنها تبدي عزمها ورغبتها الشديدة بالتجاوز ليس من أجلها بل من أجل أطفالها.
بدأت قصة وفاء عندما كانت في الثامنة عشرة من العمر من عام ٢٠١١ فهذه الصبية لم تستطع أن ترى أهل المناطق الثائرة يهجرون وتقف مكتوفة الأيدي، بل انخرطت في مساعدتهم وتأمين السكن لهم ونقل المساعدات الغذائية، كان هذا جرمها الوحيد وما تبقى ارتبط باسم عائلتها فوالدها كان من الناشطين في مجال الإغاثة وأخوها انشق عن جيش النظام ليعتقل قبلها وإلى الآن لم ترد أخبار عنه، أما شقيقها الآخر فقد استشهد بعد خروجها من المعتقل.
في يوم الثامن والعشرين من شهر آب عام ٢٠١٢ كانت وفاء في طريقها لشراء حاجيات للمهجرين، وإذ بحاجز يقوم بتوقيفها واعتقالها بعد أن تم كشف هويتها، طالبين منها استدراج والدها وأخيها بمكالمة ولكنها رفضت وأنكرت أنها على صلة بأهلها، تم تحويل وفاء إلى الفرع٢٢٧ التابع للمخابرات العسكرية، ونقلت إلى هناك معصوبة العينين، تعرضت في الطريق لشتائم وعمليات ترهيب وتخويف وتهديد. وضعوها في سجن وحدها وبدأت تسمع أصوات صراخ المعذبين، وعندما حان موعد التحقيق، أخذوها في طريق ملئ بالدماء، وتقول أنها رأت جثثاً مرمية على الأرض كيفما اتفق، تقول “عندما رأيت ذلك فقدت جميع أحاسيسي ولم أعد قادرة على النطق، فاكتفيت بالصمت طوال فترة التحقيق”، بعدها تم تحويلها إلى الفرع ٢١٥، ولم تختلف مشاهداتها في هذا الفرع عن الفرع الآخر كانت ترى المعتقلين وهم يصعقون بالكهرباء ويشبحون ويضربون، وكل ذلك في سبيل انتزاع الاعترافات منها، لكن صمتها كان له مفعول إيجابي، إذ أنهم حولوها لسجن عدرا بتهمة ارتكاب أعمال ارهابية وهي ببساطة مساعدة المهجرين، حيث أمضت عامين هناك عدا عن ٧٥ يوماً قضتها في أفرع المخابرات، وخلال هذين العامين لم يزر وفاء أو يسأل عنها أحد.
“كنت أري معتقلات يأتي أزواجهن لزيارتهن، فيسمعن كلمة واحدة، أنت طالق، فيظلمن من جديد، نظام اعتقلهن وأزواجن تخلوا عنهن، كما أني شاهدت نساء حوامل أنجبن في السجن ويعشن مع أطفالهن”.
عندما أعلموها أنه سيخلى سبيلها تنازعتها عدة مشاعر” نظرت حولي نساء طاعنات في السن، وأخريات حوامل، أطفال صغار، هؤلاء يستحقون الحرية أكثر مني، لا أريد أن أخرج بينما يبقون هم أسرى في المعتقلات، لماذا يبقوا وبأي ذنب.، إلى أين سأخرج؟ لم يسأل عني أحد طوال عامين وانا أعلم موقف بيت جدي، كما أني إن خرجت لن أسكت لن أقف مكتوفة اليدين سأعود إلى نشاطي وسأعتقل مرة أخرى، لم يكن الفضل في خروجي إلا لمن عانين ما عشته، زميلاتي المعتقلات، فبعد أن خرجت مجموعة منهن، قمن بتحريك ملفي واللجوء للقضاء ودفع مبالغ مالية من أجل ذلك، ومع ذلك لم أخرج مباشرة”.
وبالرغم من إخلاء سبيل وفاء إلا أنه تم عصب عينيها واقتديت إلى فرع أمن الدولة، حيث بقيت شهراً هناك لتخرج بعدها وتستقبلها صديقاتها المعتقلات السابقات اللواتي كن خير من وقف إلى جانبها.
يصل صوتها عبر الهاتف وهي تروي تجربة الاعتقال قوياً واضحاً وعندما سؤالها إلى أين خرجتي؟ ومن استقبلك؟ تغيرت نبرة صوتها لتقول بغصة “شاهدت أهالي صديقاتي يستقبلونهن بحب وفرح ماذا عني أنا؟ أنا لم أؤذ أحد ؟ ما الذي فعلته؟” تصمت “حسبي الله ونعم الوكيل” لينقطع الصوت، قد تنتهي تجربة الاعتقال ولكن العلاقة مع المجتمع باقية مدى الحياة.
حاضنتها الاجتماعية اختفت بين أب وأخ استشهدا، وأخ مغيب، ولم يتبق لها سوى والدتها التي كانت لا حول ولا قوة خلال إقامتها لدى عائلة زوجها، عدا عن مرضها، فمن كان يدعمها ويقويها لم يعد موجوداً، خرجت إلى المجهول، دون علمماذا ستفعل.
“عندما خرجت تمنيت لو أني بقيت ولم أخرج، فقد تأقلمت مع الفتيات هناك وبنيت عائلة لي، خرجت وبداخلي رعب كبير من الحواجز من العساكر من الهاتف، كان كل شيء يثير الرعب في داخلي، أقمت لمدة شهر لدى صديقات لي إلى أن قررت أن أدخل بلدتي يلدا وليحدث ما يحدث”.
دخلت وفاء بلدتها مع باصات كانت تدخل تلك المناطق المحاصرة لتقديم مساعدات غذائية متوقعة وجود والدتها بين الناس المتجمهرين، ذهبت مع صديقتها فرفضت والدتها مقابلتها خوفاً من بيت جدها كونهم هددوها إن تواصلت مع ابنتها سيأخذون أطفالها الصغار، لكن ذلك زادها إصراراً، “من خلال زوجة عمي التي التقيتها في الباص استطعت الدخول إلى البلدة بعد فترة وجيزة، التقيت والدتي سراً في منزل بيت عمي، ولكن بيت جدي علموا بالأمر ومنعوها من التواصل معي مرة أخرى تحت الضغط”.
تعرفت وفاء خلال هذا الوقت على زوجها الحالي، والذي كانت بأمس الحاجة إليه “كنت بحاجة إلى سند، وكان ناشطاً ومعارضاً للنظام، وقف بجانبي واحترمني لأني معتقلة ولم ينظر لي كما الآخرين، طلبني للزواج فوافقت، استطاعت امي ان تحضر حفل زفافي، وعندها قاطعوها بيت جدي بشكل نهائي آخذين أختي الصغيرتين، وتركوا لها صبيين، ليزوجوا البنات فيما بعد وهن لم يتجاوزن الرابعة العشر من العمر، وهنا استطعت استعادة العلاقة مع والدتي وإخوتي الصغار”.
لم يمض عام على خروج وفاء من السجن ليتم اعتقالها مجدداً على حاجز الدوريات بدمشق، وقد كانت حاملاً في شهرها الثامن “كنا محاصرين، وأثناء حملي بدأ وضعي الصحي يزداد سوءاً بسبب انقطاع الطعام والشراب، فقررت الخروج، كان اسمي موجود على قوائمهم إذ أنهم كانوا يراقبون خطوط الهاتف، وكنت حينها أوثق أخبار المعتقلات مع صديقة لي، نسيت في ذلك اليوم هاتفي في المنزل، فلم يكن لديهم دليل ضدي، عندما دخلت الفرع استعدت تجربة الاعتقال بكاملها، بدؤوا بتهديدي وتخويفي، لم أقل حرفاً انفصلت عن الواقع كان همي طفلتي، وهي من كانت تمدني بالقوة والثقة، هددوني أنهم سيأخذونها ويضعونها في دار أيتام، صحوت لأجد نفسي بين معتقلات أخذن يواسينني، بدأت بالصراخ، لتقوم المعتقلات بالصراخ أيضاً، وهنا تم نقلي إلى مشفى، وطلبوا من الطبيب أن أخضع لولادة قيصرية إلا أنه كان رحيماً وأخبرهم أنه لا يمكن إجراء عملية في الشهر الثامن من الحمل، وأعطاني بعض النصائح لأطبقها في حال تم حبسي مرة أخرى، عدت إلى الفرع وبقيت خمسة أيام، وبعدها تم نقلي إلى فرع المخابرات العسكرية، بدأت بالتوتر واعتقدت أن ذلك سيطول وسأبقى بين أيديهم، وفي التحقيق وجهوا لي اتهامات باطلة وجرائم لم ارتكبها اكتفيت بالصمت، قضيت ليلة في الزنزانة ورائحة الدماء تملأ المكان والجثث مرمية وأصوات الصراخ، وبعد ذلك أطلقوا سراحي خلال فترة وجيزة نظراً لوضعي الصحي، بعد أن كتبت تعهد بالعودة إليهم بعد ولادتي”.
خرجت وفاء للمرة الثانية بسلام وبعدها تم تهجيرها وزوجها وطفليها إلى الشمال السوري، حيث عانت ما عانته حتى وصلت إلى عفرين.
تنتظر وفاء الآن مولودها الثالث، وهي تعيش برفقة زوجها وطفليها، ترى في زوجها أجمل هدية تلقتها في حياتها، فقد وقف إلى جانبها بكل نبل، في وقت تخلى المقربون عنها “رغم أني خرجت ونعمت بالحرية، ما زال هناك آلاف المعتقلات في السجن، ويجب أن يطلق سراحهن، فهن جديرات بالحرية وبالتكريم أيضاً، أحلم بحريتهن، وبالمستقبل لأطفالي أن يعيشوا بكرامة، وكل ما نحتاجه هو دولة تحترم مواطنيها وتؤمن لهم فرص عمل ليحيوا بكرامة، هذا أقل حق يجب أن نحصل عليه”.