جسر:مقالات:
كنت في التاسعة من عمري عند لقائي الأول بالشيخ “محمد عدنان الأفيوني” في عام 1990، في قبو إحدى أبنية جمعية الريف السكنية في بلدة قدسيا، هذا القبو الرطب سيتحول لاحقاً إلى مصلى “العرفان”، وهو المكان الذي سينطلق منه العمل الدعوي “للأستاذ” عدنان.
كان الأستاذ عدنان طويل القامة، ضخم الجثة، أبيض الوجه، أحمر الوجنات، حليق اللحية، وكان موظفاً في أحد فروع البنك التجاري، مؤهلاته العلمية لم تتعد الثانوية العامة مع شهادة معهد متوسط تجاري، أما مؤهلاته الشخصية، فقد كانت عظيمةً، فكان شديد الذكاء، هادئ الطبع، شديد التهذيب، ذا ابتسامة دائمة، وكاريزما طاغية، صوته عذب في قراءة القرآن، ويتمتع بموهبةٍ خطابيةٍ فطريةٍ..
بعد أن قام الشيخ “رجب ديب” بترفيع الأستاذ “عدنان” إلى رتبة المشيخة، تحصل الشيخ “عدنان” على إدارة معهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم، فقام بإدارة المعهد من مصلى “العرفان”، بدلاً من مقر المعهد الملحق بالمسجد العمري، والذي كان منزلاً لخطيب إدلبي سابق، أُعدِم عام 1980.
أدركت من وقتها أن الشيخ “عدنان” سيكون له شأنٌ، فقد أدار معهد تحفيظ القرآن بكافةٍ، لدرجة أن معظم أطفال قدسيا غدوا طلاباً فيه، وقد كان للشيخ دور لا يُنكر في الجانب الاجتماعي، فقد ساهم في تغيير بعض العادات والتقاليد، واجتذب الكثير من الشباب، ليصبحوا مداومين في حلقات الدروس الدينية، وتحول بعضهم ليصبحوا مشايخ، مثل الشيخ “عادل مستو”، والشيخ “سمير صالح”، والشيخ “فادي نزهت”.
ربما تكون إحدى أهم محطات حياة الشيخ، “معركة” بناء مسجد الصحابة، التي وقعت بالتزامن مع وفاة مفتي الجمهورية: أحمد كفتارو، وتعرض المجمع الذي ينتمي إليه “الأفيوني” لأزمات، أدت لانكشافه أمنياً، ما شجع كارهيه، كالمهندس “محمد رزمة” صهر الشيخ “محمد سعيد رمضان البوطي”، والعميل للأمن، لشن حربٍ جرجرت “الأفيوني” إلى أقبية المخابرات.
أخمن أن تجربة “الأفيوني” العسيرة مع المخابرات ستلعب دوراً في موقفه من الثورة السورية لاحقاً، فقد خَبِرَ الشيخ جبروت السلطة، وربما هذا ما سيشجعه ليكون أحد رجالها، بدلاً من المشاركة بإسقاطها.
بعد ذلك جاءت “الأفيوني” دعوة من أحد رجال الإمارات النافذين، فصار “الأفيوني” ضيفاً سنوياً لدولة الإمارات، يذهب إليها ليقضي شهر رمضان، يلقي الخطب والدروس، ويتلقى الهدايا والأعطيات، والأرجح أنه استطاع تشبيك علاقات سياسية ودينية في الإمارات، ربما ساعدته في تقدمه لصفوف المؤسسة الدينية السورية، رغم افتقاره للمقومات العلمية والشرعية، فالشيخ “الأفيوني” حصل على شهادة الإجازة من كلية الدعوة في مجمع أبي النور، ولاحقاً شهادة ماجستير في تفسير القرآن، وكان المجمع يضم ثلاث كليات: كلية أصول الدين وتتبع السودان وهي الأقوى علمياً وفقهياً، وكلية الشريعة وكانت تتبع الأزهر، وكلية الدعوة وكانت تتبع ليبيا، وهي الكلية الأضعف علمياً وفقهياً لأنها مخصصة بالأساس للطلبة غير العرب، مع العلم أن جميع تلك الكليات غير معترف بها لدى وزارة التعليم العالي.
محطات الشيخ الأفيوني مع الثورة والنظام:
نيسان 2011، وفي أثناء تحضيرنا لإطلاق المظاهرات في قدسيا، ذهب اثنان من رفاقي لحضور خطبة الجمعة عند “الأفيوني”، وصُدما لسماعهما الشيخ يردد كلاماً ببغائياً عن خطة “بندر” والمؤامرة، في الوقت الذي كان فيه تلميذه، الشيخ “سمير صالح” يندد في خطبته بقتل المتظاهرين، أدى هذا الموقف إلى انفضاض الكثير من أنصار “الأفيوني”، من الحلقة المقربة، والعامة، وهو ما دفع “الأفيوني” لترك مسجد الصحابة، وتولية الشيخ “عادل مستو” مكانه.
أواسط صيف العام 2011، تنحى البطريرك الماروني “بطرس صفير” في لبنان، وتم انتخاب المطران “بشارة الراعي” بطريركاً، وأدلى “الراعي” بتصريحات مؤيدة لنظام الأسد، فأرسل النظام وفداً لتهنئة “الراعي”، وشكره، وكان اللافت أن يترأس “الأفيوني” وفد النظام إلى “الراعي”.
مطلع العام 2012، ومع ارتقاء أول شهداء قدسيا، استدعى العماد “آصف شوكت” الشيخ “سمير صالح” إلى مكتبه، وفي وقتٍ لاحقٍ طلب “الأفيوني” الاجتماع سراً إلى قائدنا “حمدي مستو – أبو زيد”.
أخبرني “أبو زيد” أن “الأفيوني” قال له: إنه ضد بشار الكافر على حد تعبيره، وإنه قرر الانشقاق، لكن ظروف الشيخ غير مهيأة، فابنه “خالد” يؤدي الخدمة الإلزامية، وهو سيسافر إلى الأردن حتى يعلن انشقاقه.
وفعلاً سافر “الأفيوني” إلى الأردن..
أواخر شهر أيلول 2012، حضرنا اجتماع لقادة المجموعات في منزل القائد “أبو زيد”، بهدف منع الاجتياح العسكري، وكان “الأفيوني” وسيطاً، عبر ممثله “خالد صالح”، وحضر شخص عراقي على صلة بالقصر الجمهوري، يدعى الشيخ “خضير”، لكن الاجتياح وقع، ولم يدخل “الأفيوني” قدسيا بعدها، وبعد عودتنا لقدسيا داهم بعض الأصدقاء منزل “الأفيوني”..
لكن، أود أن أذكر حادثة جرت أمامي في أثناء انسحابنا يوم الجمعة 6 تشرين أول 2012، فقد قام عناصر النظام باعتقال القائد “أبو زيد”، وأرادوا تصفيته ميدانياً، لكن الشيخ “عادل مستو” تدخل لدى الضابط المسؤول، وتم اقتياد “أبي زيد” إلى فرع الأمن العسكري، وتدخل “الأفيوني” لإطلاق سراحه، على ما أخبرني الشيخ “عادل مستو”، حيث قال لي: لقد أخرجه الشيخ من بطن الحوت..
في العام 2013، تشكلت لجنة المصالحة رسمياً في مدينة قدسيا، وعُهِد برئاستها للشيخ “عادل مستو” الذراع اليمنى لـ “الأفيوني”، وضمت في عضويتها القائد “أبا زيد” بعد تخليه شكلياً عن منصب القائد العسكري، وتحوله لقائد سري، وكان النظام يعرف لعبتنا، ولذلك بادر إلى اغتيال القائد “أبو زيد” نهاية العام 2015، بعد بداية العدوان العسكري الروسي.
في الفترة من 2013 وحتى 2020، ازدادت أهمية “الأفيوني” لدى النظام، وأصبح تواصله مباشراً مع القصر الجمهوري، وقد حاول حتى العام 2015، التوصل إلى تسوية في داريا، لكن مساعيه فشلت، وأما تهجير مقاتلي داريا صيف العام 2016، فكانت بوساطة المذيعة “كنانة حويجة”، وضابط أمن الفرقة الرابعة، وبإشراف الروس، بينما تهجير قدسيا والهامة كان بإشراف العميد في الحرس الجمهوري “قيس الفروة”، ولم يكن لـ “الأفيوني” فيها دورٌ يُذكر، وحتى حي القابون الذي ينتمي إليه “الأفيوني”، وحي جوبر الذي تعود أصول عائلته إليه، لم يكن للشيخ دورٌ، فقد كان النظام يعد “الأفيوني” لأدوار لا علاقة لها بالمعارك والتسويات.
والحقيقة أن عمليات التهجير التي انطلقت في العام 2016، ما كان لها أن تحصل لولا توافقات سياسية دولية وإقليمية، تتجاوز في أبعادها وأدوارها أشخاصاً بحجم الشيخ “الأفيوني”.
من الذي قتل الشيخ محمد عدنان الأفيوني؟
مبدئياً تتطابق عملية اغتيال الشيخ “الأفيوني” مع اغتيال رئيس بلدية قدسيا “نبيل رزمة” العميل لفرع الأمن العسكري، العام الماضي.
والسؤال: هل يمكن أن تكون أطراف محسوبة على الثورة هي من نفذت العمليتين؟
أنا أجزم أنه لم تعد لنا عناصر أو وسائل قادرة على تنفيذ هكذا عمليات، بعد قيام زملاء سابقين بخيانتنا بعد تهجيرنا، وتسليم كل ما أخفي من عتاد للنظام، وقد نقل لي أحد الأصدقاء المرافقين للشيخ “مستو”، أن العميد “الفروة” صُدم لحجم العتاد المُسلم وأنواعه، وقال بالحرف: أن هذا العتاد كان كافياً لاحتلال القصر.. في بضعة أيام.
لكن، برأيي المتواضع، والذي لا يعتد به، فإن السؤال عمن نفذ الاغتيال أمرٌ لا طائل منه، في واقعنا الراهن، فالسوريون اليوم، بين قتيلين: قتيلٌ قتله النظام، وقتيلٌ قتل نفسه.
المصدر:موقع تلفزيون سوريا