جسر – صحافة
في واحد من أيام الخميس في شهر أبريل/نيسان عام 1976 شوهدت مجموعة قليلة من النساء يمشين بصمت، كل اثنتين جنباً إلى جنب، حيث الأحكام العرفية السارية تمنع التجمع لأكثر من ثلاثة أشخاص. النساء رحن يدُرن لمدة ساعة كاملة حول التمثال الهرمي في ساحة “بلازا دو مايو” وسط العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس، مقابل “القصر الوردي” مقر الرئاسة. دارت النساء من دون أية كلمة قبل أن يعدن إلى بيوتهن، بعد أن اتفقن على تكرار طوافهنَّ يوم الخميس التالي. وهكذا تحولت المظاهرات الدائرية إلى طقس أسبوعي عصر كل خميس.
يقدر عدد من اعتقلوا واختفوا إبان الحكم العسكري في الأرجنتين (1976-1983) بثلاثين ألفاً. معظمهم تمت تصفيتهم بطرق وحشية بما فيها الرمي من الطائرات في مياه المحيط. جاءت تلك المظاهرة للأمهات، بعد فشلهن في الحصول على أية معلومات عن أبنائهن خلال مراجعتهنَّ السلطات العسكرية. أمام فشل المحاولة اتفقت الأمهات على ذاك اللقاء الصامت في تلك الساحة. هذا الطقس الغريب وغير المسبوق لنساء يمشين بصمت لفت نظر كل من شاهده.
أسبوعاً بعد أسبوع ازدادت أعداد الأمهات، نتيجة تناقل الخبر بين الناس، وبدأن بوضع مناديل قطنية بيضاء، مطرزة بأسماء وتواريخ ميلاد أبنائهنّ، على رؤوسهن كرمز تعريفي لهنّ ولحركتهن. المنديل سيغدو قيما بعد، الرمز الأكبر لقضية التغييب القسري في أميركا اللاتينية. اكتفت السلطات العسكرية في الأشهر القليلة الأولى بالتأكد من عدم مخالفة النساء للأحكام العرفية، مع الإشارة للأمهات، عبر صحفيين موالين للانقلاب العسكري، بأنهن “مجموعة من العجائز المجنونات”. لكن هذا التجاهل تحوّل إلى رد فعل عنيف في الشهر الأخير من عام 1976. صنفت الحكومة العسكرية نساء دومايو كمخربات عندما قامت “أزوسينا دي فينسنتي” بتسليم لائحة اسمية بالمفقودين إلى إحدى الصحف. في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، تم اختطاف دوفينسنتي مع اثنتين من المؤسسات، وتعذيبها وقتلها والتخلص من جثتها في البحر، ومعها الراهبتان الفرنسيتان الداعمتان للحركة أليس دومون وليوني دوكيه. تم ذلك بأمر من خورخي فيديلا (ديكتاتور الأرجنتين من 1976 إلى 1981)، الذي سيحكم لاحقاً بالسجن مدى الحياة لدوره في قمع المعارضين، خلال ما عرف بالحرب القذرة.
لم يتوقّف حراك أمهات ساحة مايو بعد الضربة التي وجهها المجلس العسكري لهن، فالمسيرات الأسبوعية الدائرية في ساحة مايو استمرت، بل بدأت أعداد متزايدة من الأمهات بالمشاركة فيها، إضافة إلى أقرباء وأصدقاء المُغيّبين، ومتضامنين مع قضيتهم بشكل عام. لتصبح المنظمة جسداً صلباً بقيادة “هيبي دي بونافيني”، إحدى مؤسسات “الأمهات”. بونافيني “أمّ مزدوجة”، فقد خطف العسكر اثنين من أبنائها، إضافةً لزوجة أحدهما. تبوأت دي بونافيني موقع القيادة في المنظمة منذ تأسيسها، وما زالت مستمرة في عملها إلى اليوم رغم عمرها (92 عاماً).
ما دفعني لكتابة هذا الإيجاز عن نضال الأمهات الأرجنتينيات، هو فكرة بسيطة. تفيد معظم تقارير منظمة العفو الدولية، ومنظمات أخرى بأن الغالبية العظمى من ضحايا الاختفاء القسري هم من الرجال، لكن وبتتبع الظاهرة سنجد أن النساء في معظم الحالات، هنَّ من سيقدنَ النضال لمقاومة الإخفاء القسري، وسوف يتابعن به حتى النهايات، رغم تعرضهن لخطر الترهيب والاضطهاد والعنف. في سوريا التي تعتبر اليوم الأولى عالمياً في عدد حالات الاختفاء القسري، حاولت بعض أمهات المعتقلين السوريين في مطلع التسعينات القيام بحركة مشابهة. تم الاتفاق والتنسيق للوصول إلى قصر المهاجرين حيث اعتقدن أن حافظ الأسد يقيم. تعرضت الأمهات للضرب والإهانة قبل أن يصلن إلى المكان حتى، ففي سوريا الأسد التي لا تشبه في شيء أية ديكتاتورية أخرى لا مكان لمثل هذه الحركات.
بعد ثورة السوريين، وتزايد حالات الاختفاء القسري ووصولها لأرقام غير مسبوقة، وخروج الكثير من الأمهات خارج سوريا، بدأت عدة محاولات لأمهات وزوجات وبنات المختفين في سوريا، لتنظيم أنفسهنَّ في أُطر تهدف لقيادة هذا النوع من النضال الذي يحتاج للصبر والنفس الطويل. فكانت هناك حركة “عائلات من أجل الحرية” التي تقودها نساء سوريات فقدن أفرادا من عائلاتهن، أشهرهن فدوى محمود والدة المعتقل ماهر طحان، وزوجة المناضل السوري الشهير عبد العزيز الخير، وهما المختفيان منذ سبتمبر/أيلول عام 2012. الحركة أشرفت عام 2018 على مبادرة باص الحرية، الذي جال مع صاحبات المبادرة، في عدة مدن أوروبية للتذكير بقضية المختفين في سجون نظام الأسد. بالتوازي تأسست عام 2018 في برلين “رابطة عائلات قيصر” التي تضم أفراد عائلات فقدت أحبتها قتلاً تحت التعذيب، ممن استطاعوا التعرف إلى أبنائهم في الصور المسربة، وهم أفراد أصروا، رغم خسارتهم، على متابعة النضال والمطالبة بالحقيقة والعدالة، وإعادة الاعتبار لضحايا التعذيب والاختفاء القسري في سوريا. هنا أيضاً تقود الرابطة سيدة هي “مريم حلاق” التي تعرفت إلى صورة ابنها “أيهم غزول” طالب الدراسات العليا في كلية طب الأسنان بعد ظهور صورته في ملفات قيصر.
المنظمتان تعملان خارج الجغرافيا السورية. رغم أن وجودهما المكاني هذا قسري بحكم القمع، لكن الأمر سيغدو من أهم نقاط ضعفهما، خصوصاً لجهة تسليط الضوء الإعلامي، حيث لا يهتم الإعلام بتلك الوقفات التي تحدث في أوروبا، كما كان سيفعل لو أنها تتم في دمشق، وهو طبعاً خيار انتحاري غير قابل للتنفيذ. لكن هذا لا يلغي أن المثابرة سوف تأتي بالنتائج يوماً، فالغطاء الدولي الذي يتمتع به نظام الأسد اليوم لن يدوم للأبد. يوماً ما، عندما سيُرفع ذلك الغطاء، ستكون مثل تلك المنظمات في طليعة الأطراف التي سينعقد عليها الإجماع، بصفتها أحد الخيارات السياسية المؤثرة، والتي تمثل واحداً من الوجوه النقية للضمير السوري، بعد أن فقدت أجسام المعارضة السياسية القائمة كل مصداقية داخلياً وخارجياً.
بينما مات الديكتاتور الأرجنتيني خلال نومه، في سجن “ماركوس باز” في 17 مايو/أيار عام 2013، فإن منظمة أمهات ساحة بلازا دو مايو الأرجنتينية التي ووجهت بكثير من الاستخفاف، عندما كانت أميركا تدعم ديكتاتور الأرجنتين، تحولت مع السنوات إلى واحدة من الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الواقع السياسي والاجتماعي الأرجنتيني، وهي كذلك حتى اليوم، بسبب دأب ومثابرة أمهات المختفين. في يوم ما قد يحدث هذا في سوريا.