يعيش الإسلام السياسي نهاية العالم الذي نعرفه منذ تأسيس ممثله الأبرز، جماعة الإخوان المسلمين في مصر، عام 1928، ثم انتشار فروعه في مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي، فضلا عن تواجده بصيغ أقلوية متعددة في معظم دول العالم، خصوصا الأوروبية والأمريكية.
فعلى مدى عقود، تمكن الإسلام السياسي من التموضع بأشكال وطرائق متنوعة في ثنايا المصالح المتضاربة عالميا وإقليميا ومحليا، منذ الحقبة الكولونيالية التي شهدت ولادته وتشكله، مرورا بالمرحلة ما بعد الكولونيالية ونشوء الدولة الوطنية في ظل الحرب الباردة التي شهدت بروزه وانتشاره، وصولا إلى عصر العولمة النيوليبرالية مع انهيار المنظومة الاشتراكية التي شهدت صعوده وانحساره.
فعقب الانتفاضات العربية الثورية السلمية 2011، هيمن الإسلام السياسي على مشهد التغيير وفرض هيمنته، لكن سرعان ما تبدلت الرؤى العالمية حول ماهية الإسلام السياسي وأهدافه وأدواره، أفضت إلى الانقلاب عليه ومحاصرته وملاحقته، وأعيد تعريف الإسلام السياسي كحزام ناقل للتطرف حينا، وكحركة إرهابية أحيانا أخرى.
يبدو أننا نشهد نهاية العالم الذي عرفه الإسلام السياسي، فثمة عالم آخر يتشكل في إطار “نهاية العالم كما نعرفه”، حسب عنوان كتاب عالم الاجتماع إيمانويل فالرشتاين، الذي يؤكد على أن النسق العالمي يعيش الآن الطور الأخير من عمره، ويعبر مرحلة انتقالية إلى مستقبل غير مؤكد على الإطلاق، ويترتبُ على ذلك “أن الطرائق التي درجنا، من خلالها، على تصور عالمنا، وأساليب تفكيرنا فيه، تواجه تحدياً جوهرياً في هذه الآونة”، ويمكن النظر إلى الإسلام السياسي كأحد محددات نهاية العالم كما نعرفه على وجه العموم، ونهاية العالم العربي كما نعرفه على وجه الخصوص، إذ لم يعد العالم يتعامل مع الإسلام السياسي كجماعة إحياء هوياتية في السياق الكولونيالي، أو حركة شبه سياسية في بنية الدولة الوطنية، ولا كحليف ديني في إطار الحرب الباردة، ولا كشريك يعمل كجدار وقاية ضد الإرهاب والتطرف في حقبة العولمة، وأصبح يمثل حزاما ناقلا للتطرف عالميا، ومتطرفا بذاته وإرهابيا عربيا.
نهاية العالم الذي نعرفه برزت بصورة راديكالية في التعامل مع الإسلام السياسي، فبعد الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب ينتمي إلى الإخوان المسلمين في مصر بانقلاب عسكري، تراوحت المواقف الدولية والعربية بين الترحيب أو الصمت في أحسن الأحوال. وبعد وفاة الرئيس محمد مرسي مؤخرا في سجنه، عقب تعرضه لأصناف شتى من التعذيب والحرمان من حقوقه الإنسانية دون وجود تهمة ظاهرة أو توفر محكمة عادلة، لم يحظ نبأ موته بالتغطية اللائقة، ولم نلحظ تعليقا دوليا بإدانة النظام أو المطالبة بالتحقيق في ملابسات وفاته، بل على النقيض من ذلك، يحظى نظام الانقلاب العسكري المصري ورئيسه الجنرال عبد الفتاح السيسي بالإشادة، والحفاوة والثناء.
لم يكن السلوك الدولي بالتعامل مع مرسي غريبا، فجماعة الإخوان المسلمين في مصر التي فازت بالانتخابات الرئاسية والبرلمانية؛ تمت الإطاحة بها بانقلاب عسكري دموي في 2013 بذريحة محاربة “الإرهاب”، وسط تهليل عربي وصمت دولي على عمليات قتل المتظاهرين في ميدانَي “رابعة” و”النهضة”، التي لقي فيها أكثر من 800 عضو من “الإخوان المسلمين” مصرعهم، وتم اعتقال نحو 40 ألف عضو ومناصر في السجن، فيما المحاكمات الجماعية جارية، والمحاكم تُصدر أحكامًا بالإعدام أو السجن المؤبد على أعدادٍ كبيرة من أفراد الجماعة، فضلا عن فرار المئات من أعضاء وأنصار الجماعة إلى خارج البلاد. وبعد إنجاز الانقلاب الدموي على الجماعة تم تصنيفها كمنطمة إرهابية في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وصودرت أصولها وممتلكاتها، بما في ذلك 1225 جمعية خيرية و105 مدارس و83 شركة و43 مستشفى ومركزان طبيان كبيران.
يمكن ملاحظة التحولات العميقة في التعامل مع الإسلام السياسي عربيا، من خلال تصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية في عدد من الدول العربية، كمصر والسعودية والإمارات، وإعادة تعريفها كميسرة للتطرف في معظم البلدان الأخرى، ولا نجد اليوم دولة عربية واحدة تحتضن الجماعة وتدافع عن أطروحاتها. ففي بلد عربي كالكويت التي تعتبر الأكثر تسامحا مع الإسلام السياسي، وهو ممثل في البرلمان، نشهد تحولا دراماتيكيا.
فقد أعلنت السلطات الكويتية الجمعة الماضية 12 تموز/ يوليو الجاري، بصورة غير مسبوقة عن ضبط واعتقال عناصر “خلية إرهابية تتبع تنظيم الإخوان المسلمين” مؤلفة من 8 أشخاص. وحسب وزارة الداخلية الكويتية، فإن أعضاء “الخلية الإرهابية” التي تم ضبطها من قبل أجهزتها الأمنية يحملون الجنسية المصرية، ويتبعون لتنظيم الإخوان المسلمين، وصادرة بحقهم أحكام قضائية في مصر وصلت إلى 15 عاما. وأشارت الوزارة إلى أنه “من خلال التحريات تمكنت الأجهزة الأمنية من تحديد مواقع أفراد الخلية الهاربين من مصر، والذين اتخذوا من الكويت مقرا لهم”. وأضافت الوزراة أنها “باشرت بعملية أمنية استباقية تم بموجبها ضبط أفراد الخلية في أماكن متفرقة”، مشيرة إلى “أن التحقيقات لا تزال جارية للكشف عن من مكنهم من التواري وساهم بالتستر عليهم، محذرة من أنها لن تتهاون مع كل من يثبت تعاونه أو ارتباطه مع هذه الخلية، أو مع أي خلايا أو تنظيمات تحاول الإخلال بأمن الكويت”.
في هذا السياق، لم يكن تراجع جماعة الإخوان المسلمين وانحسارها بسبب أيديولوجيتها أو برامجها بصورة أساسية، وإنما نتيجة تبدل الرؤية الدولية والإقليمية والمحلية للإسلام السياسي، والذهاب إلى خيار الاستبعاد والاستئصال العسكري أساسا. فقد تراجعت الاستراتيجيات الدولية والمحلية عن تعريفها للإسلام السياسي باعتباره حالة اعتدالية سلمية تناهض الراديكالية العنيفة، والتي سادت عقب 11 أيلول/ سبتمبر 2001، واهتزت رهانات الإدماج، وتبدلت الأطروحات المتعلقة بالإسلام السياسي، كمقاربة “اشتمال الاعتدال”، ونظريات “جدار الحماية” ضد التطرف، وتعاظمت مقولات “الحزام الناقل” للعنف، وتكاثرت دعوات ضم الجماعة على قوائم الإرهاب.
لا تزال جماعة الإخوان المسلمين تحت وقع الصدمة، وغير مدركة لنهاية العالم الذي عرفته، وهي في حالة ذهول أمام تبدل الرؤية الأمريكية والإقليمية والمحلية تجاه الجماعة، حيث أعيد تعريف الإخوان المسلمين كحزام ناقل للتطرف، وليس كجدار حماية، فيما ذهبت دول إقليمية رئيسية كمصر والسعودية إلى تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية.
وفي نيسان/ أبريل الماضي دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إدارته إلى وضع الإخوان على لائحة المنظمات الإرهابية، وهو ما قد يتحقق إذا فاز في الانتخابات المقبلة. لقد تبدلت الأدوار التاريخية التقليدية التي حكمت العلاقة بين الجماعة والعالم، فقد تعاملت معظم دول العالم الليبرالي تاريخيا مع جماعة الإخوان كجدار حماية للأنظمة ضد التحديات والمخاطر التي شكلتها الحركات والتنظيمات والنزعات الأيديولوجية الراديكالية اليسارية والقومية خلال الحرب الباردة، وكجدار واق من خطر الحركات والجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية والجهادية مع دخول عصر العولمة النيوليبرالية، الأمر الذي لم تعد الجماعة قادرة على تحقيقه مع تسارع التحولات وتبدل الأولويات، إذ باتت الجماعة ذاتها تشكل تهديدا للأنظمة عقب الحراكات الاحتجاجية، وتبدل تعريف الجماعة من جدار الحماية إلى الحزام الناقل للتطرف والعنف.
تعاني جماعة الإخوان المسلمين اليوم من أزمة غير مسبوقة، ذاتية وموضوعية، فتبدل الظروف الموضوعية بالتعامل مع الجماعة كطريق نحو التطرف فالإرهاب؛ عمق من مأزقها الذاتي التاريخي الذي يتمثل بالصراع بين أتباع النزعة المحافظية وأنصار النزعة الإصلاحية كمكونات بنيوية تاريخية مؤسسة لهوية الجماعة.
فالإخوان كجماعة دينية إحيائية إصلاحية محافظة؛ تحولت إلى حركة شبه سياسية، ولم تعد في مصر قادرة على الحفاظ على هياكلها التنظيمية والسيطرة على أعضائها بكفاءتها المعهودة سابقا. فقد انقسمت الجماعة إلى تكتلين، حسب أنيت رانكو ومحمد ياغي، ولكل تكتل هيكليته التنظيمية المستقلة وآراؤه المختلفة حول كيفية التعامل مع الأوضاع الراهنة. إذ يعتقد أحدهما بضرورة أن تجابه الجماعة حكومة عبد الفتاح السيسي بالطرق السلمية، بينما يطالب الآخر بمسارٍ ثوري يشرّع العنف، إنما بأسلوب مغاير عن أسلوب سفك الدماء الجهادي الذي اجتاح مصر في السنوات الأخيرة.
لا تزال جماعة الإخوان المسلمين غير قادرة على رؤية العالم الجديد، إذ لا تزال الجماعة تراهن على الصبر في مواجهة التحديات، على أمل عودة نظرية مشمولية الإدماج/ الاعتدال، وتراهن على استعادة منظورات التعامل مع الجماعة باعتبارها “جدار وقاية” ضد التطرف والعنف. لكن ذلك قد تبدل إلى الأبد، فالجماعة باتت دوليا تعرّف كـ”حزام ناقل” للتطرف والعنف في أفضل تعريفاتها، إذ تجري عملية إعادة بناء الشرق الأوسط عبر مداخل الإرهاب، وفق تطبيقات مشروع “صفقة القرن”، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطنية وإدماج المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية في نسيج المنطقة العربية الإسلامية، من خلال تأسيس تحالف أمريكي عربي إسرائيلي (ناتو عربي) تحت ذريعة مواجهة خطر مشترك اختزل بـ”الإرهاب”؛ الذي بات يكافئ “الإسلام السياسي” بنسخنيه السنية والشيعية، وممثليه في المنطقة المنظمات “الإرهابية” السنية المنبثقة عن أيديولوجبة الإخوان المسلمين، والجمهورية “الإيرانية” الشيعية وأيديولوجيتها المنبثقة عن ولاية الفقيه.
خلاصة القول؛ أن العالم كما نعرفه وكما عرفته وتعاملت معه جماعات الإسلام السياسي المنبثقة عن الإخوان المسلمين؛ قد تغيّر دون رجعة، لكن جماعة الإخوان المسلمين ترفض رؤية العالم الجديد، وهي لا تزال كمنظمة في حالة إنكار جعلها أسيرة لمأزقها التاريخي؛ بالاختيار بين توسيع قاعدتها عبر مد جسور التواصل مع الآخر أو ترسيخ قاعدتها من خلال نهج أكثر تشدداً.
ومنذ تأسيس الجماعة تغلب الاتجاه “المحافظ” على الاتجاه “الإصلاحي”، رغم ضبابية الفروق في مفاصل عديدة بين “الإصلاحيين” و”المحافظين”. ففي الوقت الذي يسعى فيه “الإصلاحيون” إلى المشاركة السياسية المباشرة ويرغبون في الانخراط مع غير الإسلاميين لتوسيع قاعدتهم، يخشى “المحافظون” من أن هذا النهج سوف يضعف من المصداقية الإسلامية لـجماعة “الإخوان”، وسوف يقوّض من تكاملها التنظيمي، الأمر الذي يعكس حالة التردد وعدم تقديم مبادرات تتموضع من خلالها في العالم الجديد.
عربي 21 ١٥ تموز/ يوليو ٢٠١٩