جسر – صحافة
في عام 2019، قدّم سامويل راماني، المتخصص في العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط، نبوءةً عبر تحليل نشره مركز كارنيغي، توقع فيها أن تخسر روسيا نفوذها في سوريا، على المدى الطويل. بنى راماني نبوءته تلك على مقومات الرهان الروسي في الإفادة اقتصادياً من النجاح العسكري في سوريا. إذ كانت أبرز مقومات ذاك الرهان، هو تدفق الأموال إلى سوريا، من دول الخليج والغرب والصين، في سياق عملية إعادة إعمار مأمولة. على أن تتمتع موسكو بالأفضلية للإفادة من تلك الأموال، بدفعٍ من وجودها العسكري النشط في البلاد. لكن راماني، توقع بأن عجز روسيا عن تخصيص قدر كبير من مواردها المادية لإعمار سوريا، سيؤدي في نهاية المطاف إلى الحد من تأثيرها هناك.
في هذه الأيام تبصر نبوءة راماني النور، بالفعل. فروسيا تفقد اهتمامها بسوريا، ليس فقط بسبب يأسها من عدم قدوم أموال الصينيين والخليجيين والغرب لإعمار سوريا، والتي انتظرتها طويلاً دون فائدة، بل بدفعٍ أيضاً من اضطرارها للحد من وجودها العسكري النشط في سوريا.
في عام 2017، أطلق تصريح شهير لنائب رئيس الوزراء الروسي حينها، ديمتيري روغوزين، إشارة البدء لاندفاع شركات روسية لحجز موطئ قدمٍ لها على الأراضي السورية. قال روغوزين وقتها: “سوريا بلد غني بلا حدود، يحصدون المحصول ذاته ثلاث مرات، وأحياناً أربع مرات، في العام، ولديهم ثروات باطنية وموقع جغرافي فريد، وفي سوريا أكبر حقل فوسفات يمكن استثماره، وستعمل موسكو مع دمشق لاستغلاله وتصدير إنتاجه”، مضيفاً: “علينا أن نفكر كيف نجني الأموال لميزانيتنا، والشركات الروسية تملك الحق في تطوير مشاريع اقتصادية ضخمة، لا سيما في ظل وجود العسكريين الروس الذين سيبقون هناك للحفاظ على السلام والاستقرار”.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ سباق روسي – إيراني، للاستحواذ على مصادر الثروة والموارد في سوريا، لتحصيل الديون على نظام الأسد. وكان ذاك السباق، لصالح الروس، حتى وقتٍ قريب. إذ استحوذت شركات روسية، على مرافق حيوية، أبرزها مرفأ طرطوس لـ 49 عاماً، وعلى موارد باطنية هامة، أبرزها الفوسفات، الذي احتُكرت بعض أهم مناجمه للروس، لنصف قرن. كما استحوذت شركات روسية أخرى على أبرز مواطن التنقيب واستخراج النفط والغاز، قبالة الساحل السوري، وفي وسط البلاد، وعلى تخوم باديتها. فيما دخلت شركات روسية، صغيرة ومتوسطة الحجم، على خط السياحة والإسكان، ومشاريع مياه وسدود وكهرباء وسكك حديدية.
لكن، ورغم الاندفاعة الاستثمارية الروسية تلك، كانت هناك عقبات جعلت كثيراً من المشاريع المشار إليها أعلاه، تبقى على الورق، أو في مراحل التخطيط والتنفيذ المبدئية فقط، وذلك بانتظار انفراج تلك العقبات. فالعقوبات الغربية بقيت سيفاً مسلطاً على مصالح تلك الشركات، خاصة تلك التي تملك استثمارات في دولٍ غربية. إلى جانب العجز المالي لدى حكومة النظام، الذي جعلها غير قادرة على تسديد قيمة الديون والعقود المنصوص عليها مع الشركات الروسية. من دون أن ننسى، الضعف الشديد للقدرة الشرائية للسوريين، الذي خفّض بصورة كبيرة من الجدوى الاقتصادية للاستثمار الروسي في سوريا.
لكن، رغم ذلك، بقي رهان الروس على انفراج تلك العقبات عبر قبول الغرب ودول خليجية، بالوضع القائم في سوريا، والمشاركة في إعمار البلاد. وحينها، كان الرهان مفاده أن تدفق السيولة النقدية من الخارج، سينعكس إيجاباً على عمل الشركات الروسية، التي حجزت مواطئ قدمٍ لها، عبر عقودٍ مُلّزمة مع النظام.
وهو ما لم يحدث. فلا الغرب، ولا الدول الخليجية التي راهنت –سياسياً- على التطبيع مع الأسد، دفعت بأموالها إلى سوريا. وحتى الصين، بقيت هواجسها الأمنية من هشاشة الاستقرار في سوريا على المدى المتوسط، سبباً في انكفائها عن الاستثمار هناك. واكتفت باتفاقات على الورق، ومحاولات استكشاف خجولة لمواطن الاستثمار المحتملة.
وبالتزامن مع خيبة أمل موسكو من رهانها على تدفق الأموال لإعمار سوريا، انخرطت عبر أوكرانيا، في صراعٍ، تؤكد كل المؤشرات أنه سيكون طويل الأمد مع الغرب. فتَراجَع اهتمامها بسوريا، إلى المربع الأول الذي كان عنده، عشية تدخلها المباشر فيها، في أيلول/سبتمبر 2015. فهي ساحة جيوستراتيجية، تتيح لموسكو موقعاً أفضل في سياق صراعها مع الغرب، لا أكثر. وهو ما يشي به نقل روسيا لجنودها الذين خبروا القتال بسوريا، إلى ساحات المعركة بأوكرانيا، وانسحابها من قواعد عسكرية كثيرة، على الأراضي السورية، لصالح الإيرانيين. باختصار، موسكو نفضت يدها من أفقٍ استثماري مأمول في سوريا. واستردت نظرتها إليها، بوصفها مجرد ساحة للمكاسرة مع الغرب.
وهو ما يعني أن الاستثمار الروسي في سوريا، سيعكس اتجاهه. وسيخرج جانب مهم من رأس المال الروسي من البلاد المؤهلة بقوة لأن تعود إلى جبهة للصراع الإقليمي والدولي. فتراجع النفوذ العسكري الروسي في سوريا، مقابل تمدد نظيره الإيراني، بالتزامن مع حالة المواجهة السياسية – الاقتصادية الشاملة، بين موسكو والغرب، سيؤدي إلى انهيار التعاون الروسي – الأمريكي، الذي استمر لسنة، في الملف السوري، والذي استند إلى مبادرة “خطوة مقابل خطوة”، عبر تخفيف عقوبات وعدم فرض أخرى بموجب قانون “قيصر”، من جانب الأمريكيين، مقابل تهدئة الروس للجبهات، والموافقة على تمرير المساعدات الدولية عبر الحدود. أي أننا سنكون مقبلين على جولة جديدة من تشديد العقوبات الغربية، وخاصة الأمريكية، على النظام. مما سيجعل سوريا منفّرة أكثر للاستثمار الروسي الراهن فيها.
ونتيجة لذلك، ستخرج الشركات التي لم تنفّذ المشاريع المتعاقد عليها بعد، والتي كانت تنتظر ظروفاً أفضل للعمل في سوريا. تحديداً منها التي تعمل في مجالات السياحة والإسكان، والتي تتطلب تحسناً للقدرة الشرائية للسوريين، وتلك التي تعمل في قطاع الخدمات كالسدود والمياه والكهرباء والمطاحن، والتي تتطلب سيولة نقدية من جانب حكومة النظام للوفاء بالالتزامات حيالها. في المقابل، ستبقى الاستثمارات في قطاعات المرافق، كمرفأ طرطوس، والموارد الباطنية، كالفوسفات تحديداً، إلى جانب المشاريع المنفّذة في قطاعات النفط والغاز. نظراً لأنها تحصل على مكاسبها من مصادر لا تتعلق بجيوب السوريين أو خزانة حكومتهم، إلى جانب أنها تكلفت رأس مال تأسيسي. أما المشاريع غير المنفّذة في هذا المجال، فستنسحب على الأرجح، خشية تبعات تشديد العقوبات، إلى جانب ضبابية المستقبل في البلاد.
المصدر: موقع المدن (إياد الجعفري)