سميرة مسالمة
فتح القرار الأميركي المتضمن الموافقة على السماح بأنشطة استثمارية في مناطق من الشمال السوري في 12 قطاعا حيويا، من دون أن تخضع لعقوبات، المجال لنقاشات كثيرة حول الرسائل السياسية والاقتصادية والأمنية التي يحملها مضمون القرار، ومكان تنفيذه، وكذلك أفق ما يستوجبه مثل هذا القرار من تغييراتٍ في بنية النظام السياسي لسورية، كي لا يكون أداة لتعميق تفتيت سورية، في وقت يمكن فيه استخدامه أداة اقتصادية للتعافي المبكّر لمناطق عانت من نزاع طويل الأمد ومتعدّد المستويات والقوى.
وحيث يمكن قراءة القرار من زاوية ما، أنه تنفيذاً للرؤية الأميركية – الأوروبية لشكل النظام السياسي في سورية ما بعد التسوية المحتملة، بأنه نظام “لامركزي، أو فيدرالي في درجةٍ ما”، وهو يفتح المجال أمام تنمية مناطقية تقرّرها الأطراف المحلية حسب مضمون وثيقة تحت مسمى “اللاورقة” التي صدرت عن المجموعة المصغرة المشكّلة من أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن في (24 يناير/ كانون الثاني 2018).
والقرار، بشكله العام والمجرّد، يمكن عدّه خطوة مهمة في تفعيل ما يسمى التعافي المبكر لمناطق شهدت سنوات من النزاع المسلح المدمّر لبنيتها التحتية وقدراتها الخدمية، لكن السؤال يكون في هذه الحالة عن مدى قدرة أي جهةٍ الاستفادة منه، مع وجود صراعٍ راكد تحت الرماد بين القوى العسكرية المسيطرة على الشمال المستهدف من القرار، وهي قوات سوريا الديمقراطية، وفصائل مسلحة مدعومة تركياً، وقوات الجولاني (جبهة النصرة) وبعض من وحدات الجيش التركي، ما يعني عدم توفر البيئة الآمنة للاستثمار، وبالتالي تعطيل مفاعيله الاقتصادية على الأرض، ما لم تعمَد هذه القوى إلى إيجاد جسور تواصلٍ بينها تؤدّي إلى انفتاح سياسي يسمح بانسياب التدفقات الاستثمارية وضمان أمنها. أي يمكن وصف القرار الأميركي بأنه “تحريض” للقوى الرئيسية (مجلس سوريا الديمقراطي وتركيا) على التفاوض وإيجاد تفاهمات مشتركة، تمكنهم من تحقيق منطقة خضراء أمنية لاستثمارات أجنبية أو محلية، وهو ما تترتب عليه إعادة رسم خريطة الخلافات البينية بين قوى الأمر الواقع، وترسيم حدود التماسّ مع بقية الأطراف وفقاً للقرار الذي يحظر التعامل مع النظام أو الجهات المعاقبة أميركياً، وهي جبهة النصرة من جهة، والنظام السوري ومعه كل من روسيا وإيران من جهة ثانية.
وربما هنا لا يمكن تجاهل قراءة النظام القرار أنه إعلان رسمي من الولايات المتحدة بالاعتراف الكامل لخروج هذه المناطق من مظلة حكومة النظام السوري، وهو أمر فعلياً يتناقض مع كل البيانات الرسمية الدولية بشأن وحدة الأراضي السورية، التي تستوجب التعامل مع كامل أجزائها بالقوانين ذاتها، وبالتالي بالعقوبات ذاتها، حسب ما يعنيه بيان وزارة خارجية النظام الذي اعتبره “مؤامرة وطالب المواطنين في الشمال السوري بإسقاطها”، أو بمعنى آخر التساوي مع مناطق النظام في تحمّل أعباء الحرب التي خاضها النظام ذاته ضد السوريين في الشمال المستهدف بالقرار. ويعني هذا أن القرار يضعنا من جديد أمام قراءاتٍ مختلفة تبدأ من تفسيره الاقتصادي، ولا تنتهي عند تفسيره السياسي، بأنه تعاملٌ أميركي مع فيدرالية الأمر الواقع، وإنما يمكن أن يكون سبباً في وضع حد للخلاف التركي – الكردي من منظور المصالح المتبادلة، للاستفادة من القرار باتجاهاتٍ سياسيةٍ وعسكرية واقتصادية ومجتمعية، وأيضاً لإجبار النظام على إعادة قراءة مسار التسويات المقبلة في ظل توسيع هامش الحريات الاقتصادية التي يعنيها ويستهدفها القرار.
من هنا تكمن أهمية العودة إلى الحوار بين القوى والشخصيات السورية الذي جرى نهاية الأسبوع 13 و14 مايو/ أيار في استوكهولم بشأن مستقبل النظام السياسي في سورية، للتأسيس لإجماعات وطنية حول الشكل الأمثل للنظام، ومدى قدرته على معالجة واقع مناطق سورية، وفقاً لاحتياجاتها المختلفة، فذلك هو المدخل الذي يسهم في معرفة التحدّيات الحقيقية التي تواجهنا على هذا الصعيد، وضمن الخيارات المطروحة كان لنظام “اللامركزية” حظّه الوافر في النقاشات التي كان القاسم المشترك بين المشاركين هو ضرورة ألا نعيد إنتاج النظام المركزي الحالي للتداول.
والأساس عندي هو تحديد (وضبط) المعنى، أو المقصد، من أي طرح يقدّم، سواء تحت مسمّى اللامركزية أو كما طرحته في أكثر من مقال سابق بتسميته الصريحة “الفيدرالية”، منعا للتلاعب، والمخاتلة. وتلك هي وظيفة الدستور، أو النصوص الدستورية، بالرغم من أن المصطلحات تخضع دائماً لتوظيفات سياسية متباينة، تبعا لطبيعة النظام الحاكم، ومدى تمثله قضايا المواطنين. وللفيدرالية (أو اللامركزية) التي تطرح خيارا ملائما لسورية ما بعد الحرب إيجابيات وسلبيات، كأيّ نظام آخر، والحكم في هذا الأمر مدى تلبية أي نظام لحاجات المجتمع، وحاجات التطور في البلد المعني. ولكن حتى ترجح كفّة الإيجابيات فيها يُفترض أن تنطلق من وجود نظام ديمقراطي، لأن الديمقراطية كنظام هي التي تدعم وترسخ الكيانات الفدرالية، التي لا تسمح بإعادة إنتاج النظام المركزي، الاستبدادي، وكل نظام مركزي هو استبدادي، بشكل أو بآخر، بهذه الدرجة أو تلك. وطبيعي أن الديمقراطية لا تتأتى فقط من انتخابات، وإنما هي ترتكز على مكانة المواطنة، وتعدّد السلطات، (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، واستقلاليتها، بحيث لا تطغى سلطةٌ على غيرها، في نوع من تقاسم السلطة، أو تحديد حدود كل سلطة.
ولعلّ من المفيد التذكير أن البلدان الكبيرة والقوية، السائدة في العالم، تتبنّى النظام الفيدرالي، وهذا ينطبق على الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا والنمسا، والبلدان الفدرالية تبدو أكثر وحدة، وعصية على التجزئة، من البلدان التي تتبنّى المركزية، وهذا ما ثبت في التجربة. ومثلا لو أن السودان يتبنّى نظام الفيدرالية لما تعرّض للاهتزاز وخروج جزء من أرضه ومجتمعه عنه. والفدرالية (أو اللامركزية) المطروحة للنقاش لا تعني مجرّد تقسيماتٍ إدارية، أو شكلية، أو مجرّد وسيلة لتعزيز هيمنة المركز، وإنما هي تعني أساسا المشاركة في الحكم، أو تقاسم السلطة، بين المركز والأطراف، أي بين السلطة المركزية والسلطات الفرعية، كما يعني ذلك الإنصاف في تقاسم الموارد، والمشاركة في تقرير السياسات وتحديد الخيارات.
وتعد حقوق المواطنة الفردية والجماعية، والمقصود هنا المواطن الفرد، الحرّ، والمستقل، والمتساوي مع غيره، هي أحد أساسيات النظام الفيدرالي، لأنه من دونه يصبح ذلك النظام بمثابة سلطةٍ مركزية، سواء كانت واحدة، أو كانت تمثل عدّة مراكز قوى سلطوية. ويمكن التأكيد أنه لا معنى أيضا لنظام فدرالي لا تتمثّل عبره جموع المواطنين، بكل انتماءاتهم، ومع تنوعهم، لأن النظام الفيدرالي القائم على الإقصاء لأي سببٍ يحمل بذور ضعفه وانهياره، ومعنى التمثيل هنا على الصعيدين المحلي والعام.
صحيحٌ أن القرار الأميركي تعامل مع بدهية أنّ الشمال منفصلٌ عن باقي أجزاء سورية التي يهيمن عليها النظام، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه تشجيعٌ على الانفصال، بقدر ما يمكن أن يكون القرار للحضّ على تسريع خطا التفاوض، لإنتاج نظام سياسي يحافظ على وحدة سورية من جهة، وعلى استقلالية القرار المناطقي التنموي من جهة مقابلة، وليس أنسب من الفيدرالية لتكون محلّ نقاش جادّ بين السوريين أفراداً وجماعات، وعلى طاولة تفاوض اللجنة الدستورية بعيداً عن الاتهامات المسبقة، والتأويلات المجحفة للمصطلح، والقياس على التجارب الناجحة لبلدانٍ اختبرها السوريون في أزمات لجوئهم المروّعة.
المصدر: العربي الجديد