جسر: متابعات:
عادت الإدارة الأميركية للحديث عن “الانتشار” في مناطق محددة في شرق سوريا، بعد الإعلانات المتكررة للرئيس دونالد ترامب عن الانسحاب الكامل.
أين ينتشر الأميركيون؟
نشبت ليل الثلاثاء/الأربعاء، اشتباكات واسعة بين مليشيات النظام المتمركزة في بلدة الجيعة في ريف ديرالزور الغربي، و”قوات سوريا الديموقراطية” المواجهة لها على خطوط التماس. وعلى الفور حلق الطيران الاميركي في سماء المنطقة، واستهدف بضربتين جويتين مقر قيادة مليشيات النظام في معمل الورق في بلدة الحسينية.
ويشير ذلك، إلى عزم القوات الأميركية استخدام القوة لإرغام النظام وحلفائه على استيعاب أن الوجود الأميركي شرقي الفرات حقيقي وغير قابل للمساومة، على الأقل في هذه المرحلة.
وكانت قافلة أميركية قد دخلت ريف القامشلي مقبلة من المالكية، صباح اﻹثنين، وضمت 170 شاحنة ترافقها 17 عربة مدرعة، وحلقت طائرات حربية أميركية فوقها على طول خط رحلتها الذي انتهى إلى أحد حقول النفط في محيط ديرالزور.
مصادر “المدن” أكدت أن معبر سيمالكا، ومنطقة المالكية، والمنطقة المحاذية للحدود العراقية ابتداء من المالكية، ومروراً بتل حميس ومخيم الهول، وصولاً إلى الحدود الإدارية لديرالزور، ستبقى تحت سيطرة القوات الأميركية لضمان طريقها البري نحو إقليم كردستان العراق. ويشمل ذلك الطريق البري عبر معبر ربيعة، المغلق حالياً في وجه المدنيين والتبادل التجاري، والذي قد يستخدم لأغراض عسكرية، كما حدث قبل يومين، عندما عبرت قافلة أميركية من العراق إلى حقل العمر وضمت 30 مركبة مدرعة على الأقل بينها ناقلات جنود، ودبابات.
في ديرالزور، ستحافظ الولايات المتحدة على انتشارها في الريف الشمالي الواقع على ضفة الفرات اليسرى، ابتداءً من الجزرة، على الحدود الإدارية مع الرقة، مروراً بالكسرة، التي تعتبر حالياً بمثابة العاصمة الإدارية لديرالزور، وصولا إلى منطقة الريف الأوسط، حيث يتم انشاء قاعدة أميركية مزودة بمهابط للحوامات في بلدة رويشد المواجهة لمدينة ديرالزور ومطارها حيث تتموضع قوات النظام وقوات روسية ومليشيات إيرانية.
ويستمر الانتشار الأميركي في ريف ديرالزور الشرقي، حيث تتركز حقول النفط والغاز؛ العمر، حقل النفط الأكبر، وكونيكو، حقل الغاز الأضخم ومعمل الغاز الأهم ايضاً. كما يشمل التوضع الأميركي الجديد؛ حقول الملح وصيجان وغيرها، وصولاً إلى بلدة الباغوز على الحدود العراقية، والتي بدأت القوات الأميركية بانشاء قاعدة كبيرة فوق تلتها الوحيدة المعروفة بتلة الجهفة.
ويشهد ريف ديرالزور الشرقي، المواجه لمدينتي الميادين والبوكمال التي تنتشر فيها للمليشيات الإيرانية، تعزيزاً للنقاط العسكرية الأميركية. ومن ناحية ثانية تعزز القوات الأميركية تواجدها في الصحراء لحماية ظهر قواتها المكشوف لبادية الروضة الواسعة، والسبخات المحيطة بها، والتي لا تزال تشهد تواجداً يصعب اجتثاثه لخلايا “داعش” المتخفية، والمستمرة بشن الهجمات المباغتة على “قوات سوريا الديموقراطية”.
ووفقاً لمصادر “المدن”، فإن القوات الأميركية ستحافظ على سيطرتها على المناطق جنوبي الحسكة كمركدة وسبعة وأربعين، وقاعدة في منطقة تل تمر يوجد فيها مهبط للطائرات، إضافة إلى الشدادي التي تعتبر أحد أهم مراكز القيادة والإدارة للقوات الأميركية في سوريا، والتي أقيم فيها سجن ضخم شديد التحصين، يعتقد أنه معظم معتقلي “داعش” الأكثر خطورة قد نقلوا إليه. أما منطقة التواجد الأكبر في محافظة الحسكة، فهي كما كانت في السابق، في حقول رميلان النفطية التي تضم قرابة 1322 بئراً نفطياً و25 بئراً غازياً.
ماهو حجم وتسليح هذه القوات؟
إضافة إلى نحو ألف جندي أميركي كانوا يتواجدون مسبقاً في المنطقة، فإن ما لا يقل عن 250 جندياً آخرين سينضمون إلى القوات الأميركية العاملة شرقي الفرات. مصادر “المدن” أكدت أن التعزيزات الجديدة جاءت من الكويت، وتُشكل طواقم ومشغلي 30 دبابة حديثة، ستتمركز بالقرب من الحقول النفطية. ويعتبر نشر الدبابات الأميركية هو الأول من نوعه في سوريا، إذ خاض “التحالف” المعارك ضد “داعش” بالعربات المصفحة وناقلات الجنود وقطع المدفعية فقط. وتعود الحاجة لهذا المستوى الجديد من التسليح إلى طبيعة المهمة؛ وهي حراسة حقول النفط، التي تقتضي، بحسب خبراء عسكريين، رداً ميدانياً سريعاً حال التعرض للهجمات المباغتة بالمفارز، التي تحاول تخريب المنشآت النفطية. ويعتبر الرد بالدبابات اجراءً مؤقتاً، قبل تدخل الطيران المروحي، المناط به حماية المنطقة الصحراوية الشاسعة. وتتمركز نصف دزينة من الحوامات الأميركية في قواعد تل تمر وحقول رميلان والشدادي وحقل العمر وقاعدة رويشد. ويحتمل إنشاء قاعدة أخرى في ريف ديرالزور الشرقي. أما الطيران المقاتل، فما زال يقلع من قواعد خارج سوريا، مثل إقليم كردستان وقاعدة عين الأسد قرب الأنبار العراقية.
الاستراتيجية.. المهام والأدوات
من الواضح أن استراتيجية واشنطن الحالية تركز على منع نظام الأسد من الاستفادة من حقول النفط شرقي البلاد، ويقدر المسؤولون اﻷميركيون اﻻنتاج الحالي للنفط في سوريا بما يتراوح بين 40-70 ألف برميل يومياً. وعلى الرغم من محدودية الكمية ورداءة نوعية النفط المستخرج، يطمح الأميركيون، من خلال تمكين “قسد” من السيطرة عليه، ليكون مصدراً مهماً لتمويلها. وستستخدم “قسد” ذلك التمويل لحماية السجون، التي تضم محتجزي “داعش”، ولتسليح عناصرها، ومواصلة قتال التنظيم.
وتتمثل الغاية الاستراتيجية الثانية في وقف التمدد الإيراني، إذ تُقابلُ مناطق الانتشار الأميركي الجديدة شرقي الفرات، مناطق انتشار “الحرس الثوري” غربه، والذي يعمل بلا كلل على تعبيد وافتتاح ما تبقى من الطريق البري بين طهران ودمشق.
وتتمثل النقطة الاستراتيجية الأميركية الثالثة استكمال “الانتصار” الذي تعتقد واشنطن أنها حققته على تنظيم “داعش”، وملاحقة فلوله في عموم المنطقة، وليس فقط في مناطق سيطرتها، كما حدث مؤخراً بمهاجمة مقر البغدادي في إدلب، ومساعديه في جرابلس الواقعة تحت السيطرة التركية.
أخيراً، ستحاول واشنطن من خلال ذلك الانتشار المحدود عسكرياً، الواسع من حيث المنطقة التي سيغطيها، استعادة القوة الرمزية للولايات المتحدة في العالم، كما ستحاول، من خلال حماية جزء من حليفها السابق “قسد”، استعادة مصداقيتها، التي اهتزت كثيرا بعد ما بدا أنه تخلٍ سريع من طرفها عن حليفها الكردي. لكن ذلك لن يكون بمعزل عن السكان العرب السنة، وهم الغالبية العظمى هناك، إذا يبدو أن أحد أولويات الاستراتيجية الجديدة، هي إزالة مشاعر الغبن التاريخية التي تهيمن عليهم، وتدفعهم نحو العدمية العنيفة، المتمثلة بالحركات الجهادية.
ما فوق الاستراتيجية
يمكن النظر إلى الانتشار الأميركي الجديد بمثابة تحد واضح للمشروع الروسي في ذلك البلد، الذي يريد بوتين ضمه إلى مجموعة الحدائق الخلفية الملحقة بالكرملين. ويشكل بقاء القوات الأميركية حجر عثرة لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن لثلاثي أستانة فرض أي من تفاهماتهم أو مخططاتهم بوجوده.
ويؤكد مسؤولون أميركيون على صلة وثيقة بالملف السوري، بحسب مصادر “المدن”، إنه لن يكون بإمكان أي طرف أن يفرض إعادة تعويم نظام الأسد، الذي يعتبرونه السبب الأساسي في التمدد الإيراني في سوريا، وسبب ظهور واستفحال التيارات الجهادية. ورحيل الأميركيين، إن حصل في المدى المنظور، سيكون مرتبطاً بظهور “حكم جديد” في سوريا، قائم على أساس مقررات الأمم المتحدة. ويوحي ذلك بأن القوات الأميركية ستبقى، شأنها شأن القوات الأميركية في أفغانستان والعراق وغيرها، التي تكرر إعلان الانسحاب عنها من دون أن يحدث ذلك بالفعل. فالأميركي يأتي ليبقى.
(المدن)