“أنا أعيش مثل الكلب في الشوارع”
كان رستم* جالساً في منتزه، و هو بيته الجديد بعد أن طرده صاحب المنزل الذي كان يستأجره في دمشق. لم يقم بدفع الإيجار لمدة شهرين و بعدها فقد مصدر دخله، والذي كان عبارة عن أشغال مؤقتة في البناء والإعمار- بعد أن دخل التوقف عن العمل حيز التنفيذ بسبب وباء الكورونا- وقد فقد الاتصال مع عائلته لأن والده اضطر لبيع هاتف العائلة كي يشتري الطعام. لم يستطع رستم تأمين الطعام لنفسه، ناهيك عن إرسال أية نقود لهم.
وقال بمرارة “سوريا هي مقبرة لشعبها قبل أن تكون مقبرة لأي غزاة” مشيراً إلى تهديد شائع للقوى الأجنبية من قبل نظام البعث. “أنا أعيش مثل الكلب في الشوارع. لم آكل منذ يومين بسبب المسؤولين”.
وفي إشارة إلى الأسد دون استخدام اسمه، قال رستم من المؤكد أنه على دراية بالفقر المدقع الذي يتحمله السوريون “لكنه لا يستطيع فعل شيء”.
إن اقتصاد سوريا في حالة انهيار: في أقل من عام، فقدت الليرة السورية أكثر من 78% من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية الرئيسية بأكثر من 100%، بحسب برنامج الغذاء العالمي. تشير المحادثات التي أجريت عبر تطبيقات المراسلة وعلى الهاتف مع سكان من محافظات سوريا الأربع عشرة إلى أن شرائح كبيرة من السكان تعاني الجوع. يصف السكان المحليون رؤية أعداد أكثر من المتسولين في الشارع، والدعارة، وناس يفتشون عن فتات الطعام في القمامة.
يعتمد الشعب بشكل متزايد على الخبز، وهو أرخص مصدر للسعرات الحرارية، من أجل البقاء. وابتداءً من شهر آذار وللمرة الأولى منذ بدء الثورة في عام 2011، بدأت المخابز التي تبيع خبز الدولة في مناطق النظام تعاني نقصاً حاداً بسبب عدم القدرة المالية على استيراد الحبوب. وقد خف هذا النقص في شهر أيار إلى حد كبير بسبب الحصص التي فرضتها الحكومة.
وقد وجه الانحدار الاقتصادي المرتبط بالكورونا ضربة أخرى لاقتصادٍ كان مسبقاً في حالة سقوط حر، مما سرّع من انحدار سوريا إلى مرحلة لا يستطيع النظام فيها حتى إطعام قاعدته الجماهيرية، والتي تشمل أفراد المجتمع العلوي، أسر الجنود الذين لقوا حتفهم، والموظفين الحكوميين. وتتركز المنافع بشكل متزايد في أيادي النخبة المتمكنة. وفي نمطٍ كرر نفسه طيلة فترة الحرب، تستفيد مجموعة صغيرة من التجار الذين هم على صلة مع النظام والمسؤولين من الفرص التي توفرها حالة الإغلاق نتيجة مرض الكورونا والمتسوقين المذعورين الذين اكتنزوا البضاعة، بينما تغوص بقية الشعب بعمقٍ أكبر في الفقر. إن الصعوبات التي يعانيها السوريون تنجم بشكل أساسي عن الحرب، وانهيار الاقتصاد في لبنان المجاور، والفساد المستفحل، ولكن مع توجه سوريا نحو المجاعة التي تلوح في الأفق، فإن العقوبات الإضافية ستزيد الأزمة سوءاً. ويمكن تبرير سياسة الولايات المتحدة التي تقلل من رخاء الشعب السوري قصير الأمد فقط في حال رسم مسار واضح لكيفية أن تشديد العقوبات سيؤدي إلى تغيير جذري في سلوك النظام يخدم مصالح الشعب السوري.
التدابير الخاصة بوباء الكورونا
الوباء هو مجرد عامل واحد مؤثر على اقتصاد سوريا المدمر مسبقاً. وفي حين أن عدد حالات الكورونا في سوريا لا يزال محدوداً، وذلك عل الأرجح بسبب حالة العزلة النسبية للبلد، فإن التدابير التي اتخذتها الحكومة السورية للتصدي لانتشار الفيروس قد أسهمت في الإنكماش الاقتصادي الحاد والذي تسارع نتيجةً للانخفاض السريع في قيمة الليرة اللبنانية. يملك السوريون عدة مليارات من الدولارات في البنوك اللبنانية – حيث استخدم أثرياء السوريين لبنان كملاذٍ لتجنب العقوبات- ولكن هذه البنوك قامت بتقييد تحويلات الدولار، لذا لا يمكن تحويل هذه الأموال إلى الاقتصاد السوري. بدأت الليرة السورية بالانخفاض بشكل أسرع من أي وقت مضى، لتصل إلى 2,825 في حزيران (وهذا سعر الصرف المستخدم طيلة هذا التحليل). وقد دفعت الخسائر الفادحة التي لحقت بالاقتصاد السوري خلال فترة الإغلاق النظام إلى رفع أغلب التدابير في غضون ثلاثة أسابيع، ولكن بعض القطاعات مثل المطاعم والسياحة لاتزال تعاني بسبب تدابير الإغلاق الأطول وتقييد التحركات.
استمرت الحكومة بدفع رواتب موظفي القطاع العام (والذين شكلوا حوالي 55% من القوى العاملة في عام 2014)، ولكن القطاع الخاص وأولئك الذين يعتمدون على العمل اليومي قد تضرروا بشدة. أفادت جهات اتصال متعددة تم إجراء مقابلات معهم من جميع أنحاء سوريا بمعاناة الجوع أو بمعرفة أفراد قد خسروا جميع مصادر الدخل. حتى أولئك الذين يعملون لدى الدولة كانوا قد أجبروا لسنوات على استكمال دخلهم بوظائف ثانية وثالثة، وقد تأثروا أيضاً.
يقول نبيه، الذي يعمل خلال النهار في مؤسسة الإسكان العسكري في اللاذقية وفي المساء في إحدى المقاهي التي تم إغلاقها بسبب الكورونا، “عمري 33 سنة وكل ما في جيبي هو 125 ليرة (حوالي 8 سنتات أمريكية)”. ويقول مستاءً، “قد اضطررت اليوم على اقتراض 1,000 ليرة من صديق حتى أتمكن من قص شعري”.
بعد دخوله أزمة كورونا بخزائن دولة شبه فارغة، كافح النظام من أجل الاستمرار في تأمين حتى الأساسيات للشعب. في حين بدأت دول نامية أخرى بتوزيع المساعدات المالية والسلال الغذائية، بالتحديد على الأفراد الذين يعتمدون على العمل اليومي وفقدوا جميع مصادر الدخل، طلبت الحكومة السورية من السوريين المساهمة في صندوق سيتم استخدامه لتعويض المحتاجين الذين يستوفون معايير محددة، بمدفوعات فردية تبلغ 100,000 ليرة سورية (35دولار) كحد أقصى. وخلال بضعة أيام، بعد أن قام أكثر من 450,000 سوري بالتسجيل إلكترونياً من أجل التعويضات، تمت إزالة الموقع بسرعة.
وفي محاولة لأخذ الفضل في المساعدة التي تقدمها المنظمات الدولية غير الحكومية – وعلى حساب أضعف فئات سوريا- أجبر النظام هذه المنظمات غير الحكومية على تقليل المساعدات للجهات المستفيدة المحتاجة. تزعم دمشق بأن تلك المنظمات قد وافقت على المشاركة في حملة الكورونا التي تقودها الدولة. في الواقع، سوف تواصل المنظمات غير الحكومية ببساطة توزيع الأموال على الجهات المستفيدة التي تم اختيارها مسبقاً، ولكن بمعدل مخفّض.
وفقاً لموظف في منظمة أوروبية كبرى غير حكومية تعمل في دمشق، “أخبرتنا وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بأنه يمكننا فقط تقديم نفس المبلغ [مثل مبلغ الحكومة]، إلا أن تقييمنا يعتمد على الحاجة إلى السلال الغذائية وأسعارها.”
إن المبلغ الموزّع من قبل المنظمات غير الحكومية أعلى بأربع مرات وسطياً مما تنوي الحكومة السورية توزيعه. هذا يعني أنه سيتم تخفيض الفوائد التي تعود على الأشخاص الذين يعانون من ضائقة شديدة، كالأسر التي تترأسها النساء والتي كانت تتمتع بمرتب يبلغ 140 دولار تقريباً في الشهر، وسوف يتلقون عوضاً عن ذلك 100,000 ليرة سورية (35 دولار) كل شهرين.
فرص جديدة للفساد والمحسوبيات
وفر الإغلاق الذي فرضته السلطات السورية فرصاً جديدة للبيروقراطيين والجنود وعملاء المخابرات لتحقيق منافع مالية شخصية. أصحاب المحلات الذين يريدون إبقاء محلاتهم مفتوحة أو البقاء في الخارج بعد حظر التجوال يقومون ببساطة بدفع الرشاوى لرجال الشرطة، والمفتشين والمخابرات. وكان على من تم اعتقالهم لانتهاكهم حظر التجوال أن يدفعوا المال للشرطة أو المخابرات كي يطلقوا سراحهم، وفي بعض الحالات بعد تعرضهم للتعذيب. بينما تم عزل سكان المناطق الريفية عن الأسواق في المراكز الحضرية، مما زاد من انعدام الأمن الغذائي لديهم، فقد تمكن الأشخاص أصحاب العلاقات أو أولئك المستعدين لدفع الرشاوى من الحصول على إذن للسفر بين المحافظات للعمل. وفي أنحاء المناطق التي يسيطر عليها النظام، ابتزت نقاط التفتيش التي تديرها وحدات الجيش والميليشيات “الضرائب” من التجار الذين ينقلون البضائع، ومن المارة أيضاً. مع الإقفال بسبب وباء الكورونا، زاد عدد نقاط التفتيش هذه، وفي بعض الحالات، بدأت نقاط التفتيش الموجودة مسبقاً بطلب الرشاوى من أصحاب المتاجر للسماح بمرور السلع، مما ساهم في الارتفاع السريع في الأسعار.
بعد الإبلاغ عن عدد من حالات الكورونا في منطقتي منين والست زينب على مشارف دمشق، تم إغلاق البلدات بالكامل، باستثناء أولئك القادرين على دفع الرشوة للمغادرة. استمر إغلاق الست زينب، وهي منطقة ذات أغلبية شيعية انضم أبناؤها بشكل جماعي إلى الميليشيات الموالية للنظام، لمدة أكثر من شهر ازدادت خلالها عمليات الرشوة تعقيداً لتشمل المهربين، وسائقي التاكسي، والسلطات الصحية في المدينة الذين يمنحون إذناً استثنائياً لمن يحتاجون رعاية طبية في دمشق مقابل 5,000 ليرة. هذا الفساد، مقروناً برفض النظام الكشف عن الأماكن التي تعاود الظهور فيها حالات جديدة، دفع العديد من السكان المحليين في هذا المجتمع الموالي إلى الاعتقاد بأن البلدة لا يوجد فيها أي حالات كورونا وأن الإغلاق هو مجرد مؤامرة تهدف لانتزاع الرشاوى منهم.
الدولة المتداعية
الدولة، التي تعج بالفساد، غير قادرة على التصدي للأزمة الاقتصادية؛ حيث أن الأجهزة التي من المتوقع أن تحمي المواطنين من افتراس الاستغلاليين هي جزأ جوهري من هذه المخططات. فإن سرقة موارد الدولة متفشية وتحدث على جميع مستويات الحكومة: فالوزراء يوجهون إيرادات الدولة إلى حساباتهم الخاصة، رؤساء المديريات ومؤسسات الدولة يمارسون السرقة، والبيروقراطيون الصغار يبتزّون المواطنين. والحل الذي يقدمه النظام هو مضاعفة وزيادة دور الدولة على حساب القطاع الخاص. في خطاب صارم ألقاه في 4 أيار، رسم الرئيس السوري بشار الأسد مساراً للأمام من شأنه أن يجعل الدولة أكثر مشاركة في إدارة الاقتصاد. من المفترض أن تصبح المؤسسة السورية للتجارة، وهي مؤسسة حكومية لبيع السلع المدعومة من قبل الدولة وذات الأسعار الخاضعة للرقابة، أكثر نشاطاً، وتنافس الأسعار في المتاجر العادية.
من المرجح أن تؤدي زيادة مشاركة الدولة في إدارة الاقتصاد إلى زيادة الأمور سوءاً. حيث ينظر العديد من بيروقراطيي الحكومة إلى نقص السلع المكلفين بتوزيعها على أنه فرصة للاغتناء، وليس كمشكلة يجب حلها. وينتشر الفساد بشكل كبير بين المسؤولين المكلفين بتأمين وبيع السلع المدعومة من قبل الدولة؛ يقوم مديرو صالات السورية للتجارة وأولئك الذين يوزعون خبز الدولة (المعتمدين) وأسطوانات الغاز والبنزين بتحويل الموارد لملء جيوبهم.
قالت سميرة، موظفة في السورية للتجارة، أن “التقارير حول الفساد [في المؤسسة] صحيحة بالمطلق. تم القبض على العديد من المسؤولين رفيعي ومتوسطي المستوى، ولكن تم الإفراج عن بعضهم بعد فترة قصيرة”.
وأوضحت أن مديري صالات السورية للتجارة يقومون بتسجيل مبيعات مزيفة ويبيعون بدلاً من ذلك المواد المدعومة من الدولة للتجار بسعر أعلى من السعر الرسمي، ثم يبيع هؤلاء التجار السلع بسعر السوق. ومن ثم يؤدي نقص منتجات الدولة إلى ارتفاع الأسعار الإجمالية. على سبيل المثال، استغل الموزعون على الفور النقص الحاد في الخبز، وقاموا بسحب الخبز لبيعه في السوق السوداء.
كما دعا الأسد إلى زيادة الإجراءات والغرامات المفروضة على المتلاعبين بالأسعار، لكن مراقبي وزارة التجارة وحماية المستهلك، المسؤولين عن منع التلاعب بالأسعار وضمان جودة السلع، هم في الواقع يساهمون برفع الأسعار. نظراً لارتفاع تكاليف الإنتاج والشحن، والأرباح لكبار التجار، لا يقدر بعض أصحاب المتاجر على بيع المنتجات بالأسعار الرسمية أو التخلص من السلع منتهية الصلاحية. والبعض الآخر يرفع الأسعار لمجرد تحقيق الربح. لذلك، يقوم أصحاب المتاجر برشوة موظفي الوزارة، إما بالمال أو بالسلع المجانية، للسماح لهم بإبقاء الأسعار أعلى من تلك التي حددتها الحكومة. ويتم تبادل السلع أحياناً في العلن أمام الزبائن؛ في الأسابيع الأخيرة، أفاد بعض السكان في اللاذقية عن رؤيتهم مراقبي الوزارة يمشون و معهم كيلوغرامات من الجبن والقهوة المطحونة عالية الجودة أثناء زيارات التفتيش، دون أن يدفعوا ثمنها.
ويلقي المسؤولون السوريون والصحف التي يديرها النظام اللوم بشكل روتيني عن ارتفاع الأسعارعلى التهريب عبر الحدود. وبالفعل إن التجارة غير المرخص بها مع الدول المجاورة تقلل حقاً من توافر السلع داخل سوريا. قد يكون مصطلح “التهريب” غير مناسب لوصف الظاهرة، بالنظر إلى التسهيلات التي تمارسها قوات النظام والمسؤولون ومشاركتهم العميقة في هذه العمليات.
وفقاً لموسى الذي يعمل في مقلع للحجارة على الحدود السورية اللبنانية، فإن “كبار التجار الذين تربطهم علاقات جيدة مع النظام يشرفون على عملية التهريب. فهي طريقة جيدة لتبادل المواد الغذائية وجلب الدولارات على أساس يومي”.
ويشارك هؤلاء الأفراد أيضاً في عمليات التهريب إلى العراق والأردن، حيث تلعب الفرقة الرابعة في الجيش السوري دوراً ملحوظاً. وفقاً لمنير، وهو مقاتل في الفرقة الرابعة من ريف اللاذقية، يتم التهريب من وإلى لبنان بالتنسيق مع حزب الله اللبناني. والتهريب إلى العراق يتم بالتنسيق مع الميليشيات الموالية لإيرانعلى الجانب الآخر من الحدود. ومع عجزه عن قمع شبكات التهريب القوية هذه، دعا النظام المواطنين إلى المساعدة في الإبلاغ عن محاولات التهريب.
المساعدات والولاء
مع استمرار انهيار الاقتصاد، يقوم النظام بالتلاعب بالموارد الشحيحة لأغراض سياسية، ويكافئ أولئك الذين يعتبرهم موالين. ودخل أولئك الذين يُنظر لهم على أنهم غير موالين الأزمة الاقتصادية في حالة أكبر من انعدام الأمن الغذائي والفقر. أظهرت دراسة مكثفة أجريت عام 2018 من قبل المركز السوري لبحوث السياسات أن توافر الغذاء كان أعلى بشكل ملحوظ في المحافظات التي شهدت القليل من القتال: طرطوس واللاذقية والسويداء. وعلى نقيض ذلك، فإن المناطق التي خضعت لسيطرة المعارضة سابقاً ومن ثم استولى عليها النظام وحلفاؤه الأجانب لم تشهد الكثير من استعادة الخدمات.
يمارس النظام تأثيراً كبيراً على عمليات المنظمات غير الحكومية، مما أدى إلى توزيع غير عادل للمساعدات بشكل يعاقب الأفراد المعتبرين معارضين للنظام. وصف موظف في منظمة أوروبية كبرى غير حكومية تحديات العمل التي يواجهها في الغوطة الشرقية، والتي استعادها النظام في 2018 بعد خمس سنوات من الحصار. حيث رفضت وزارة حكومية السماح للمنظمة بتنفيذ مشاريع في مدينة دوما، وهي أكبر مركز سكاني في الغوطة الشرقية والمنطقة الأخيرة التي استسلمت بعد أن نفذّت قوات النظام هجوماً قاتلاً بالأسلحة الكيميائية. وبدلاً من ذلك، دفعت الوزارة المنظمة غير الحكومية للعمل في حرستا، وهي أول بلدة في الغوطة الشرقية تستسلم للنظام. بعد مفاوضات مكثفة مع الوزارة، تمكنت المنظمة من التوصل إلى اتفاق لتنفيذ المشروع في بلدة ثالثة في الغوطة استسلمت للنظام قبل دوما.
كما وأن المساعدة الغذائية المطلوبة بشدة تخضع للتلاعب من قبل النظام. يجب تقريباً على جميع المنظمات غير الحكومية الدولية التي تعمل خارج دمشق والتي توفر سلالاً غذائية أن تمارس أعمالها إما من خلال الأمانة السورية التي تديرها السيدة الأولى السورية أسماء الأسد، أو من خلال الهلال الأحمر العربي السوري، والذي تعدّ قيادته مقربة من النظام. وأوضح مدير في منظمة غير حكومية دولية للمساعدات والتي تعمل في دمشق أنهم غير قادرين على اختيار الجهات المستفيدة. وتقوم المنظمة بتوجيه الهلال الأحمر العربي السوري للقيام بالتوزيع حسب الحاجة، وقال أن الإرشادات التوجيهية “مقبولة إلى حد كبير”.
وقال المدير: “نحن شركاء فنياً مع الهلال الأحمر العربي السوري، ولكنهم في واقع الأمر هم الذين يتخذون القرارات [النهائية]”.
وأوضح جاسم، المقيم في الحولة بريف حمص، التي استعاد النظام السيطرة عليها في 2018، أن “الهلال الأحمر العربي السوري يوزع في مناطقنا، لكن العائلات التي لديها أبناء نزحوا إلى الشمال [الذي تسيطر عليه المعارضة] مستبعدة من التوزيع. كما أنهم يستبعدون عائلات المعتقلين السياسيين، على الرغم من أنهم في أمس الحاجة للمساعدة بسبب فقدانهم للشخص المعيل في الأسرة”.
شبكات الرعاية المتقلصة
في خضم الأزمة الاقتصادية، يبحث النظام بشكل أعمق ولكنه لا يجد إلا وسائل أقل ملائمة لتعويض قاعدته الجماهيرية. إن الجهود المبذولة لإجبار رامي مخلوف الذي كان في السابق من أبرز أعضاء الدائرة الداخلية للنظام على تسليم جزء من ثروته على الأقل، يشير إلى الصعوبة المتنامية التي يواجهها النظام في ملء خزائن الدولة. خلال الحرب، ومع تقلص النفقات غير العسكرية للدولة، أصبح النظام بشكل متزايد أقل قدرة على إعالة الشعب ككل وركز بشكل أضيق على توفير الفوائد القليلة التي لا يزال بإمكانه تأمينها للأفراد المعتبرين من الموالين. إن وظائف الدولة، حتى مع استمرار تدهور قيمتها من حيث القدرة الشرائية، هي الصيغة الأكثر شيوعاً للرعاية التي يستخدمها النظام. وُعدت عائلات جنود الجيش السوري الذين سقطوا والجنود الذين أكملوا أكثر من ثماني سنوات من الخدمة بوظائف حكومية. ولكن بسبب الصعوبات المالية و واسطات القرابة المتفشية، لم يتم تشكيل وظائف كافية، وينتهي المطاف بتوظيف من لديهم علاقات مع كبار المسؤولين الحاليين. حتى أولئك الذين يُعتبرون الأكثر ولاءً – العلويون ذوي صلة بالجنود الذين سقطوا والمقيمون في الساحل السوري – أفادوا بأن عليهم دفع رشاوى للحصول على وظائف في القطاع العام.
تؤدي الضغوط المالية إلى تآكل الامتيازات القليلة التي لا تزال تقدَّم للموالين. أثار النظام موجة غضب عارمة عندما قرر تخفيض مدة العلاج الفيزيائي الذي يوفره لقدامى المحاربين العاجزين إلى ستة أشهر وإنهاء توفير الأدوية لعائلات المعوّقين. وتم إلغاء العديد من المسابقات الجماعية للتوظيف في القطاع العام المخصصة لأولئك الذين أكملوا مؤخراً تسع سنوات من الخدمة بسبب نقص التمويل لتوظيف الموظفين الإضافيين. لم يبدأ الجنود الذين أكملوا تسع سنوات من الخدمة وتم تسريحهم في آذار 2020 بتلقي راتب التقاعد الشهري البالغ 35,000 ليرة سورية (11 دولار)، الذي يحق لهم لمدة عام واحد. علّق علي متأسيّاً، والذي تم تسريحه في آذار بعد تسع سنوات وثلاثة أشهر من الخدمة ويعيش في ريف اللاذقية “عمري 29 سنة. ليس لدي عمل. لا أملك أي نقود لشراء الطعام أو الشراب أو السجائر. هذه ليست حياة تستحق العيش”.
ومع ذلك، لا يزال النظام يحاول الاعتناء بالموارد القليلة التي لا زالت تحت تصرفه. فبعد أيام من الضجة التي كان سببها تخفيض الفوائد للمحاربين القدامى العاجزين، أعلنت الحكومة عن مساعدات لمرة واحدة، بمبالغ تتراوح بين 100,000-200,000 ليرة سورية للمحاربين القدماء العاجزين. بعد إعلان الأسد عن أكبر مشاركة في الاقتصاد من المؤسسة السورية للتجارة، تم إرسال سيارات تحمل خضروات رخيصة إلى دمشق. وتم اختيار اثنين من أصل 95 حياً في دمشق – هما عش الورور و مزة ٨٦- لتجربة هذا البرنامج. كلا الحيين مأهولان من قبل علويين بشكل كامل تقريباً، وكثير منهم ضباط ذوي رتب متدنية. بالنظر إلى أن دمشق فيها فقط خمسة أحياء ذات أغلبية علوية، فإن احتمال اختيار اثنين منهم عشوائياً يساوي 0.2%.
يمكن تقديم الامتيازات بطرق أخرى. فخلال فترة الإغلاق الكامل بسبب وباء الكورونا، لم يتم تطبيق القوانين واستمرت المتاجر والمواصلات العامة في العمل في أحياء النخبة الدمشقية والبلدات التي يسكنها ضباط النظام. قدم النظام استثناءً رسمياً في القوانين للعسكريين، الذين أمكنهم مواصلة التنقل بين المحافظات، ومن الغريب أن ذلك شمل أيضاً سكان أربع بلدات علوية تبعد أميالاً عن دمشق و تعد إدارياً جزءاً من ريف دمشق، وتم اعتبارها جزءاً من دمشق نتيجةً للتدابير المتبعة ضد الكورونا. وهكذا، أمست ضاحية قدسيا ذات الأغلبية العلوية، التي هي أبعد عن العاصمة من قدسيا ذات الأغلبية السنية، جزءاً من دمشق.
استغل ماهر، وهو من سكان قدسيا، هذا الأمر للسفر إلى العاصمة: “لقد قدت على طريق ترابي إلى ضاحية قدسيا ومن هناك إلى العاصمة. حيث أن نقاط التفتيش تشير لك بالسماح بالمرور لأن جميع سكان البلدة من العلويين”.
تكيُّف المدنيين مع الأزمة
نجا السوريون من سنوات من الاضطرابات عن طريق اللجوء إلى بعضهم البعض للمساعدة، وهم يفعلون ذلك مرة أخرى. ولكن قدرة السوريين داخل البلاد على مساعدة بعضهم البعض تتعرض لضغوط متزايدة مع غرق الطبقة الوسطى بعمق تحت خط الفقر. والتحدي الآخر هو تدخل النظام؛ فقد تم إغلاق بعض المبادرات لإطعام الجياع أو لم يتم منحها الإذن للعمل، وتم اختيار البعض الآخر من قبل النظام لخدمة أهدافه السياسية، وتلك المبادرات التي سمح لها بالمتابعة فعلت ذلك تحت عين دمشق الساهرة.
وتعاونت المجتمعات سوياً لمساعدة بعضها في حين أن الدولة فشلت في فعل ذلك.
ووصف ريان معروف، وهو صحفي يعيش في السويداء، هذه الجهود في المنطقة ذات الأغلبية الدرزية: “هناك العديد من المبادرات المجتمعية. على سبيل المثال، في العديد من القرى، يدفع السكان المحليون القادرون على تحمل التكاليف ثمن خبز العائلات الأخرى على أساس يومي، فيتم توزيعه لهم مجاناً. أعفى العديد من أصحاب العقارات المستأجرين من دفع الإيجار لمدة شهرين إلى ثلاثة أشهر. وسامح بعض أصحاب المتاجر الديون المستحقة لهم.”
وتجري مبادرات مشابهة في درعا وجرمانا وطرطوس واللاذقية والسلمية أيضاً، بدعم من المحسنين المحليين والأموال التي يرسلها السكان الذين هم أساساً من المنطقة ويعيشون الآن في الخارج.
آفاق معتمة لتحركات جماعية جديدة
طريقة أخرى للتكيف هي التنفيس، على شبكة الإنترنت وخارجها، حول الفقر المدقع، وانقطاعات الكهرباء والماء، والحياة المريحة للمسؤولين الحكوميين. حيث أن الصفحات والمجموعات والمنتديات المؤيدة للنظام التي تركز على الفساد نشطة بشكل مذهل مقارنةً بتلك التي تعبر فقط عن الولاء للأسد. يكاد هذا التنفيس لا يؤدي أبداً إلى نتائج ملموسة ولكنه يوفر شعوراً بالراحة والجماعة. إن الانتقادات التي يتم التعبير عنها في العلن تقريباً لا تمس أبداً قيادة النظام أو العائلة الأولى أو المخابرات، بل تركز بدلاً من ذلك على مجلس الوزارء والمسؤولين الأقل رتبة. في المحادثات الخاصة مع المؤلف، يتجرّأ أولئك الذين يفضلون النظام على البدائل المتاحة ويشعرون بالحاجة لانتقاد الرئيس شخصياً، واصفين إيّاه بأنه غير كفؤ وضعيف، وغير قادر نهائياً على إخراج البلد من الحفرة التي هو فيها.
قد يبدو التنفيس على الإنترنت بمثابة علامة مبشرة بالحراك، لكن غالباً ما يكون له تأثير مثبّط. ومنذ سنوات وأولئك الذين يعتبرون “مؤيدين” يشتكون عبر الإنترنت. أصبح الآن من الواضح للغاية لهم أنه لا يوجد أي شخص سعيد، ومع ذلك فإن الجميع يائسون جداً وخائفون جداً من أن يقوموا بالحراك، مما يولد شعوراً بالاستسلام الدائم.
“لقد بدأت أشعر بأننا نستحق هذا لأننا لا نزال صامتين في وجه الظلم. يا إلهي، لقد تعبنا”. علقت نور، إحدى سكان الست زينب، على منشور في مجموعة خاصة على الفيسبوك بخصوص الظروف المعيشية المتدهورة في المدينة.
وقامت موظفة حكومية تعيش في طرطوس بالتعليق في مجموعة خاصة بقولها: “يبدو الأمر كما لو أن الأصوات على وسائل التواصل الاجتماعي لا تصل [إلى أي شخص]، ولكن إذا تكلم أي شخص عن أي أحد في الأمن [المخابرات] أو قام بسبّ [الرئيس]، فسيصل صوتك إليهم بسرعة”. وأضافت: “كيف لنا ألا نفعل أي شيء [لتأمين] قوت عيشنا. نحن أيضاً ملامون. هذه ليست مرونة؛ هذا ذلّ وخنوع”.
وتشير عدة محادثات خاصة مع أولئك الذين يقيمون تحت سيطرة النظام إلى أنهم يشعرون بالضعف والعجز والتشاؤم. الحل المفضل عند الكثيرين هو الهجرة، لكن الحدود مغلقة، والتهريب مكلف.
أي احتجاج شعبي، حتى ولو كان يركز بشكل ضيق على المطالب الاقتصادية، سيواجه تحديات هائلة في سوريا الأسد. ويمكن رؤية هذه النقطة بوضوح في الاحتجاجات في منطقة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، والتي تتمتع بأقل تدخل من الحكومة والمخابرات من بين جميع المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة النظام. في عام 2011، لم يستخدم النظام القوة الفتاكة ضد المتظاهرين هناك مطالبين بإسقاط النظام، بهدف إبقاء الأقليات الدينية إلى جانبه. في حزيران 2020، اندلعت احتجاجات مناهضة للنظام في المنطقة، وبينما عبر السكان المحليون عن تعاطفهم عبر الإنترنت، لم ينضم لها إلا القليل منهم – حيث حشدت الاحتجاجات حوالي 100 مشارك.
وأوضح ريان، الصحفي المقيم في السويداء: “يشعر الناس أنه لا فائدة من الاحتجاج. النظام لا يستطيع إصلاح الأمر”. حتى بين أولئك الذين يفضلون النظام على المعارضة، يُنظر إلى النظام على نطاق واسع على أنه غير قادر على إخراج سوريا من الأزمة. قالت وفاء، وهي موظفة دولة من الطائفة العلوية “الناس يشعرون بالاشمئزاز من الفساد”. ومشيرة إلى الأسد دون استخدام اسمه، أضافت “إنه غير كفؤ وضعيف”.
ويكافح أفراد الطائفة العلوية التي ينتمي لها الأسد، والتي هي أساس قاعدة دعمه، بشكل متزايد من أجل تلبية احتياجاتهم، ومع ذلك ما زالوا يخشون عدم الاستقرار ويساوون بقاء النظام مع بقائهم. وقام بلال، وهو علوي مقيم في طرطوس، بوصف المجتمع بأنه يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة لأن جميعهم نشأوا على قصص القمع من قبل الطائفة السنية.
قال بلال: “أعرف أشخاصاً [علويين]، عندما ظنوا أن النظام سيسقط في 2011، قاموا بتركيب كاتم صوت لمسدساتهم”، للسماح لهم بالتمرد تحت الحكم السني. “كان جدي يكرر في كثير من الأحيان المقولة ’قريباً سوف يدفع الدم الصخور‘” وتعني المقولة أن أنهار الدم التي ستنهمر من العلويين وأولئك الذين يهاجمونهم سوف تتدفق بقوة لدرجة أنها ستحرك الصخور. منذ تلك الأيام، فقد تورطت نسبة متزايدة من العلويين الذكور في جرائم الحرب والخوف من الانتقام.
وأوضح “إذا سقط النظام، فإن أعداءنا سوف ينتقمون منا. ولن نسمح بحدوث ذلك”.
التطلع للأمام
و يدخل السوريون مرحلةً من انعدام الأمن الغذائي المتزايد، وهم مروَّعون من نظام قمعي أو من احتمال انهياره. السوريون الذين أشفقوا ذات مرة على أولئك الذين ينتظرون في الدور لساعات للحصول على أرز الدولة ذي النوعية الرديئة، يجدون أنفسهم الآن في نفس الدور. منذ عام 2011، انخفض الناتج المحليالإجمالي الزراعي في سوريا إلى النصف، مراكماً 1.146 مليار ليرة سورية من خسائر الناتج المحلي الإجمالي. وأجبر هذا الانخفاض الحاد في الإنتاج دمشق على استيراد الضروريات الأساسية والتي كانت تزرع محلياً بكميات كافية. وساهم ذلك في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، الأمر الذي يشكل خطراً كبيراً طويل الأمد على الأمن الغذائي. ويتوفر الطعام في المتاجر، ولكن عدد أقل من الناس يمكنهم تحمل نفقته. العجز عن الاعتماد على الواردات بسبب انهيار الليرة السورية يتطلب من سوريا أن تكون قادرة على إنتاج ما يكفي من الغذاء محلياً لضمان قدرة السوريين على تناول ما يكفي من السعرات الحرارية. وهذا يستدعي إعادة الاستثمار في القطاع الزراعي، وهو أمر لا يستطيع النظام تحمله، وأيضاً معالجة الفساد، وهو ما يبدو أن النظام غير قادر على القيام به.
وتدخلت منظمات المساعدة غير الحكومية الدولية والأمم المتحدة لسد الفجوة ولكنها غير قادرة على تلبية احتياجات الشعب في جميع أنحاء سوريا. في المناطق التي يسيطر عليها النظام، تضطر المنظمات غير الحكومية للتعامل مع فساد النظام، وظروف الحرب، والمتبرعين القلقين الذين لا يريدون أن يُنظر لهم على أنهم يساهمون في مشاريع إعادة إعمار تتم في ظل نظام الأسد. نظراً لانعدام الأمن الغذائي المتنامي في سوريا وعجز الحكومة عن معالجته، فإن المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة تقوم بتصعيد جهودها لتأمين التمويل للمساعدة الهادفة إلى ضمان عدم جوع الشعب السوري.
العقوبات
مع تقليص السوريين لنوعية وكمية الطعام الذي يستهلكونه، فإن الاقتصاد السوري على وشك أن ينضغط أكثر. دخل قانون حماية المدنيين قيصر، و هو قانون عقوبات شامل أقره مجلس الشيوخ الأمريكي، حيز التنفيذ في 17 حزيران. ومن شأن القانون أن يمنع الجهات الفاعلة، الأمريكية منها والأجنبية، من الوصول إلى النظام المالي الأمريكي إذا انخرطوا في قطاعات إعادة الإعمار أو الهندسة أو الطاقة أو الطيران العسكري في سوريا. يتوقع المسؤولون الأمريكيون أن يكون للقانون آثار طويلة الأمد ستعيق بشكل جوهري إعادة الإعمار من المضي قدماً.
أصر مسؤول سابق في مجلس الشيوخ، والذي شارك في صياغة قانون قيصر، أن “القانون يركز جداً على محسوبي النظام”، وأشار إلى الإجراءات التي تهدف إلى التخفيف من التداعيات الإنسانية السلبية. وأوضح أن العقوبات الخانقة التي تم فرضها على العراق في عهد صدام حسين، والتي فشلت في إزاحته عن السلطة ولكن أحدثت كارثة إنسانية، كانت في أذهان من صاغوا هذا القانون. “إن الكثير من الإعفاءات والترخيص العام للجهات الفاعلة في المجال الإنساني تُستمد من الدروس المستفادة من العراق. حيث توجد لدينا تدابير تشريعية وتنظيمية لم تكن لدينا من قبل [في العراق]”.
ومع ذلك فإن قانون قيصر سيزيد من الصعوبات الاقتصادية على جميع السوريين. آثار العقوبات الغربية الحالية – الأقل شمولاً من قانون قيصر – محسوسة في كل أنحاء القطاع التجاري ومن قبل الجهات الفاعلة الإنسانية. لا يمكن لأصحاب المصانع استيراد قطع غيار لإعادة بناء منشآتهم المدمرة. أفاد موظفو منظمات غير حكومية متمركزة في دمشق أنه في محاولة للحد من خطر التعرض للعقوبات، ترفض البنوك مسبقاً أو تؤخر معالجة المعاملات المالية الضرورية لعملهم. وقد ساهمت عقوبات قطاع الطاقة السابقة، التي استهدفت النظام وإيران، في حالات نقص واسعة النطاق في غاز الطهي والكهرباء في سوريا.
للاستيفاء بشروط إزالة العقوبات المنصوص عليها في قانون قيصر، سيتوجب على النظام السوري تحويل نفسه إلى نظام لا يقصف مواطنيه أو يسجنهم بسبب معارضتهم السياسية. يعترف المسؤولون الأمريكيون بأن إمكانية حدوث مثل هذا التغيير بعيدة ولكنهم يشعرون بثقة متزايدة بأن الأزمة الاقتصادية ستؤدي إلى انهيار داخلي للنظام. ومن الواضح أن الدولة والنظام السوري يواجهان ضغوطاً غير مسبوقة، ولكن ما إذا كانت هذه الضغوط ستؤدي إلى تفكك النظام، وكيف على وجه التحديد، يبقى غير واضح نظراً لتخطيط الحكومة الحالية المكثف لمقاومة الانقلابات واستعدادها المؤكد لقتل المتظاهرين. فيما تنحدر سوريا إلى فقر مدقع، فإن العقوبات التي تهدف إلى تحقيق المساءلة وحماية المدنيين السوريين قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تفاقم بؤسهم.
ومن المتوقع أن يتسبب الأثر النفسي لفرض العقوبات في انخفاض قيمة الليرة السورية. وهذا بدوره من المحتمل أن يجعل السوريين غير السياسيين والمتعاطفين مع النظام أكثر عرضة لتصديق دعاية دمشق. منذ اندلاع أزمة وباء الكورونا، كثفت وسائل الإعلام التابعة للنظام جهودها لإلقاء اللوم على العقوبات عن الصعوبات التي يواجهها السوريون وعن قصور نظام الرعاية الصحية في البلد. إن النقص العام في المعلومات بين السوريين حول محتوى قانون قيصر والتغيير في السلوك الذي يهدف إلى تحقيقه سيساعد جهود النظام الدعائية.
ملاحظات نهائية
إن الدولة السورية تأخذ بالضمور. فقد أفلس النظام ويحاول الآن استخراج الأموال من أي مكان كان – حتى لو كان ذلك يعني التهام أتباعه، سواء كانوا ابن عم الرئيس أو سكان قرية علوية. إن النظام الذي قاد سوريا إلى أزمة اقتصادية ونقص غذائي يعجز عن التعامل مع التحديات الهائلة التي تواجه البلد في مجالي الاقتصاد والصحة العامة. إن شبكة الرعاية التي يقدمها النظام بدأت تتفسخ، الأمر الذي أدى لزيادة افتراسه على الشعب السوري. وهؤلاء الأكثر تضرراً بالانهيار الاقتصادي هم النازحون داخلياً، وأولئك الذين دُمّرت بلداتهم ولم يتم إعادة بنائها، والممنوعون من المزايا المحدودة التي تمنحها وظيفة الدولة، والمحرومون من المساعدات – جميع الفئات تتألف على نحو غير متناسب من السوريين الذين يُنظر إليهم على أنهم غير موالين للأسد. ومع ذلك بعيداً عن المجموعة الصغيرة من المستفيدين، فإن كل السوريين عانوا تحت حكم نظام الأسد، حتى ولو كانوا يدعمونه تفضيلاً على البدائل الأخرى. وإن السياسة الهادفة إلى إنهاء هذه المعاناة، لا بد وأن تحرص على عدم زيادة حدتها.
*تم تغيير جميع أسماء السوريين لحمايتهم من انتقام النظام.
إليزابيث تسوركوف زميلة في معهد بحوث السياسة الخارجية تركز على بلاد الشام. تم نشر النسخة الأصلية باللغة الإنكليزية في مركز السياسة الدولية ومقره واشنطن.