عبد الناصر العايد
يبدو أن ظهور قاسم سليماني مع السلاح في البوكمال نهايات العام 2017، وهو يقود المليشيات الإيرانية في معركة انتزاع المدينة من قبضة تنظيم داعش، لم يكن مجانياً. إذ كشفت الأحداث اللاحقة أن للمدينة الحدودية موقعاً مهماً في الاستراتيجية الإيرانية، وقد أضحت بُعيد سنوات من احتلالها، عقدة الربط الرئيسية مع العمق العراقي من طرف، ورأس جسر إلى العمقَين السوري واللبناني من طرف ثان. جرى ذلك بلا ضجيج، سوى ما تحدثه الغارات الإسرائيلية والأميركية المتباعدة والمشكوك في فاعليتها وأثرها في تحجيم الأنشطة الإيرانية هناك.
يفيد نشطاء يراقبون الأحداث في منطقة البوكمال من كثب، بأن كل نقطة عسكرية إيرانية تُقصف يعاد بناؤها مباشرة، وتظهر أخرى إلى جانبها أيضاً. التنامي الظاهري للمنشآت العسكرية، يُعتقد أنه يترافق مع تكاثر تحت الأرض، فأعمال حفر الأنفاق وتحصينها تجري على قدم وساق في قاعدتين على الأقل، إحداهما القاعدة التي صارت شهيرة بسبب قصفها المتكرر من قبل “طيران مجهول” وهي “قاعدة الإمام علي”، التي تتربع فوق عشرات الكيلومترات في الأراضي السورية الحدودية، ولم يُعرف بعد حجم الإنشاءات التي أنجزت تحت سطحها ولا الغاية منها.
الحضور العسكري الإيراني لم يترسخ وحسب في تلك المنطقة، بل تفرد به بعد نبذ الوجود الروسي، إذ غادرت آخر مفرزة للشرطة العسكرية التابعة لموسكو فندقاً كانت تستولي عليه وسط المدينة، بينما تضاءل وجود قوات النظام في كافة المرافق الحيوية إلى أرقام تُعدّ على أصابع اليدين، وفي بعض النقاط الأمنية لا غير. أما المعبر الحدودي الحيوي جداً، فتسيطر عليه مليشيات إيرانية، ومقاتلون من جنسيات عراقية وأفغانية، ترتدي زي النظام وشاراته وترفع علَمه على نحو صُوري.
تدير إيران بالكامل العلاقات الكثيفة مع الجانب العراقي، عبر أربعة معابر معروفة، أحدها تستخدم فيه مراكب تمخر نهر الفرات جيئة وذهاباً، لتحط في ميناء صغير تم إنشاؤه لهذه الغاية، وتنقل عبر الحدود مقاتلين ومعدات عسكرية على نحو يومي، لا يستطيع المراقبون هناك تحديد نوعها ولا وجهتها التالية.
أثرى عناصر هذه المليشيات جراء سيطرتهم على اقتصاديات المدينة، وعلى التدفقات التجارية عبر الحدود، وكلها عمليات تهريب غير شرعية، على رأسها التبغ والمخدرات التي اجتاحت المنطقة وجوارها. وتخضع كل عمليات التنقل بين الجانبين السوري والعراقي، لمكوس معلوم، إضافة إلى أجور باهظة لترفيق وحماية قوافل التجارة من الهجمات المحتملة على الطريق الصحراوية المتجهة غرباً.
البحبوحة المالية لهذه المليشيات، جذبت أعداداً متزايدة من أبناء المنطقة للانخراط فيها، وتتوالد الفصائل المسلحة بأسماء ذات دلالة مذهبية بشكل متواتر هناك، ووفّر العنصر المحلي للقيادة الإيرانية في البوكمال قدرة أكبر على التحرك، ومساحة حيوية أكثر أماناً، إضافة إلى فاعلية أعلى.
الترابط مع المجتمع المحلي على أساس العمل العسكري مُدرّ الدخل الفاحش، تبعه ارتباط عقائدي. فكل طامح لكسب ودّ الإيرانيين وأتباعهم العراقيين والأفغان، لا بد له من اعتناق المذهب الشيعي، والطرف الآخر يسهل هذه المهمة عبر التقرب من القبائل التي تزعم لنفسها نسباً يعود لآل البيت، مثل قبيلة المشاهدة التي يؤلف أبناؤها قوام عدد من المليشيات التابعة، مثل لواء “هاشميون”.
تقابل كل خطوة من سكان المنطقة نحو الإيرانيين، بخطوتين. فالعائلات المتشيّعة أرسلت أبناءها الصغار في بعثات تعليمية مأجورة إلى العراق وإيران، وبلغ قوام آخر إرسالية إلى النجف، نحو خمسين طفلاً، يلقنون هناك أسس المذهب الشيعي، ويربطون مع الشبكات النشطة في المدارس والحوزات الدينية في العراق وإيران، لمتابعة تعليمهم أو الانخراط في أنشطة محليّة ذات صلة. وإذا رغب بعض المتشيعين في تعميق أواصره مع العناصر الأجنبية، بادر إلى تزويج قريباته لهم، ويتحدث السكان عن العشرات من هذه الزيجات لإيرانيين وأفغان وعراقيين.
ما زالت أماكن العبادة ذات الطابع الشيعي البارز متوارية في البوكمال، خشية استهدافها من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة. لكن تلك المسماة المجالس، تنتشر في معظم أحياء المدينة وقراها الكثيرة، وترفرف فوقها الرايات الطائفية الفاقعة المنتشرة في كل أسواق البوكمال ومعالمها البارزة. لكن، وبما أن هذه الدائرة لا تكتمل سوى بمزارٍ مقدسٍ، فقد اختلقت واحداً يقوم على عين ماء في طرف الصحراء الغربية للمدينة، وصار مزاراً مبجلاً فقط لأن إسمه “عين علي”.
البوكمال لم تعد قاعدة عسكرية إيرانية فحسب، إنها منطقة نفوذ كامل، يجري التمدد منها غرباً نحو مدن الميادين ودير الزور والرقة، وصولاً إلى حمص ومنها إلى دمشق وبيروت. وصارت المدينة محطة رئيسية لقوافل الحجيج الإيراني إلى دمشق، التي تتولى المليشيات حمايتها عبر الطرق الصحراوية الطويلة. ويلفت المراقبون المحليون، النظر، إلى أن هذه القوافل لم تتعرض لهجمات داعش المعتادة في الصحراء، رغم أنها يومية، ولا تقل القافلة منها عن عشر حافلات ضخمة، الأمر الذي يشير إلى قوة وفعالية قوات الحماية.
أما أخطر ملامح النشاط الإيراني في البوكمال، فيتمثل في سيطرة ما يعرف باللواء 47، المؤلف من عناصر محليين وأجانب، والتابع للحرس الثوري الإيراني، على دائرة السجل العقاري في المدينة. ويشكو نشطاء وأهالٍ من تصاعد عمليات بيع العقارات ونقل ملكيتها لسوريين تابعين لتلك المليشيات أو لأجانب. ومع الضغط والتضييق الشديد على شريحة السكان غير المتعاونين مع الإيرانيين، تتسارع عمليات البيع والهجرة، ويُعتقد أن المدينة التي هرب منها أصلاً كافة المناوئين للنظام ومن خلفه طهران، ستفرغ من السكان الأصليين خلال سنوات قليلة، لتضحي المدينة بأرضها ومواردها وثقافتها، منطقة إيرانية بالمطلق.
على ضوء هذا المثال، وهو ليس الوحيد سورياً، يمكننا فهم حالة الذعر في محافظة السويداء السورية، من اقتراب المليشيات الإيرانية من مناطق سكن أبناء الطائفة الدرزية، ومحاولات اختراق بنيتها الاجتماعية، ولجوء بعض زعامات الطائفة لوسائل من جنس العمل الموجه إليهم ويستهدفهم كجماعة، وهو توسل قوة خارجية لحمايتهم. وهو ما لم يُتَح لسكان البوكمال أو القصير أو تدمر وسواها من المناطق التي تم تجريف سكانها بالآلة العسكرية العنيفة، وإزالتهم من الأرض، لزرع نبت الاستيطان الشيطاني فيها، والذي سيجلب جولات أخرى من الصراع المجتمعي، حتى وإن زال الاحتلال الإيراني المباشر.
المصدر: المدن