جسر – صحافة
مفيدٌ أن نبدأ من التساؤل: ما الذي يجعل من نابليون فاتحاً عظيماً ومن هتلر طاغية مستبداً، وكلاهما لم يُجِدْ سوى الغزو وإشعال الحروب؟ يدفعنا السؤال في اتجاه التسليم بأنّ عبارة “التاريخ يكتبه المنتصرون” احتلت مركزاً متقدّماً على قائمة الكليشيهات الدارجة في أوساط الساسة والمثقفين، وكأنها قاعدة ثابتة، يستقيم عليها بناء المعرفة التاريخية، بل صار عديدٌ من الباحثين يتبنّونها كأنها من بين الحقائق المطلقة التي تُقبل آلياً من دون مناقشة أو مساءلة. أزعم، شخصياً، أنّ هذه العبارة صورة منقوصة عن الواقع، بحكم أنها ترفع إلى درجة البديهيات ما لا يتعدّى كونه وجهة نظرٍ محكومة بظروفها وأغراضها. وأقترح، في المقابل، إذا ما عدنا إلى بادئ ذي بدء، وافترضنا أنّ التاريخ صنيعة المنتصر، ولا أحد غيره، تسليطَ الضوء على واحد من أكثر العلوم السياسية السرّية خطراً على التاريخ البشري، وهو علم “التجهيل والتضليل” الذي يستثمره الديكتاتور لتلميع صورته وضمان بقائه. هو الذي يدرس فنون غرس ثقافة الوهم بحذرٍ مريب، منطلقاً من التشكيك بالحقائق الواضحة، ثم، في مرحلة تالية، ينقل المتشكّك إلى حالة الرفض التامّ للحقيقة، ليُصبح عقله جاهزاً لاستقبال معلوماتٍ جديدة، ليست، فعلياً، إلاّ سياسة تسويقية ناجعة تخدم تماماً مصلحة الديكتاتور.
تأخذنا هذه المقدمة بالضرورة في اتجاه الحديث عن أشهر نظام استبداديّ في الشرق الأوسط، يسمّي نفسه، بطبيعة الحال، سياسةً، في وقتٍ يبدو السوريون فيه، وهم أسرى فاشيته وعنجهيته، يبدون مطالبين، وبشدّة، بأن يعيدوا غير مرّة سؤالَي المُحاضِر الكندي الشهير بوب بروكتر، في محاولةٍ للقبض على أسباب الجهل والانحدار إلى حالةٍ مزرية من الهزائم وفقدان البوصلة: “كيف.. ولماذا لا نعرف ما لا نعرف”؟
التجهيل السوري سياسة طُبختْ بعناية، وشارك في إعدادها وتمريرها أناسٌ قفزوا إلى مواقع اتخاذ القرارات المصيرية في غفلةٍ من الزمن
التجهيل السوري سياسة طُبختْ بعناية، وشارك في إعدادها وتمريرها أناسٌ قفزوا إلى مواقع اتخاذ القرارات المصيرية في غفلةٍ من الزمن، مركّزين على أنْ تتحوّل مناهج التعليم إلى “مفاقس” لتوليد النظريّات السقيمة ووقائع التاريخ المزيّف. وعليه، سنسلم بأنّ بشار الأسد “الديكتاتور” ليس رجلاً عفوياً في فكره وممارسته، على الإطلاق، ومن الخطأ النظر بسطحيةٍ إلى الجانب “البهلواني” في حركاته أو كلماته أو مواقفه، لأنها قد تكون خادعة. وربما أدلّ دليلٍ على هذا آخر تصريحاته المريبة، إبّان كلمةٍ له ألقاها في عيد المعلم، عن ضرورة ربط التعليم بين المنهاج والدروس المستفادة من كل “المفاصل الوطنية” التي مرّت بها سورية. وخلال لقائه بمجموعة من المعلمين والمعلمات، قال الأسد في تصريحٍ غريب: أهم مرحلة تعني هذا الجيل بشكل واقعي هي مرحلة [الإخوان المسلمين] في الثمانينيات، عندما قاموا بعمليات إرهابية، لأن تلك المرحلة هي التي أسّست للحرب التي نتعرّض لها اليوم”. وتساءل عن “كيفية تكوّن وعي وطني لدى الطالب، دون مشاركته في التجارب الوطنية، ودون أن يعرف ما العلاقة بين هذه الحرب وتلك الحرب التي شُنّت في الثمانينيات”. وأضاف “هذه التجارب الوطنية المهمة يجب أن تكون جزءاً أساسياً من المنهاج، ومن تأسيس الوعي الوطني في المستقبل”. وأشار إلى عدم ذكر فترة الثمانينيات في سورية، على الرغم من تغطية كلّ الأحداث التاريخية بدءاً من الآكاديين والآشوريين وانتهاء بخروج المستعمر الفرنسي.
إشكالية كبيرة في تدوين تاريخ السوريين الحديث الذي بات يشبه، إلى حدّ كبير، تعدّد الطوائف والجماعات
يدفعنا هذا إلى طرح الأسئلة الجوهرية: إلى ماذا يرمي بشار الأسد من هذه التصريح غير البريء؟، وأيّ ذاكرة سيتمّ بترها؟ وأيّ آلام سيتمّ لعقها بحبر “التجهيل والتضليل”؟، ولم ينسَ السوريون بعد اجتياح مدينة حماة عسكرياً، وارتكاب مجازر مروّعة فيها بحجة أنّ المدينة تشكّل المعقل الرئيس لجماعة الإخوان المسلمين. في سياقٍ موازٍ، أعلن وزير التربية في حكومة النظام السوري، في أكتوبر/ تشرين الثاني 2021، عن بدء الوزارة العمل على برنامج تحت مسمّى “أسباب الحرب على سورية”، في إشارة واضحة إلى إنشاء مناهج تتضمن مضامين ذات ارتباطات سياسية تخدم وجهة نظر النظام الحاكم وتعزّزها، لتساعده في تنشئة جيلٍ مشبعٍ بأفكاره، مؤمن بالتاريخ الذي يكتبه، وبالجغرافيا التي يرسمها. جدير ذكرُه أنه بعد الثورة السورية عُدّلت معظم المناهج في المستويات التعليمية، بما يلائم فلسفة النظام السياسية الاستبدادية، وأقلّ جرائمه أنّ مناهجه الجديدة وصمت المتظاهرين من أجل الحرية والكرامة بـ”الإرهابيين وعملاء المؤامرة الإمبريالية الكونية”. بناء عليه، ستكون ثمّة إشكالية كبيرة في تدوين تاريخ السوريين الحديث الذي بات يشبه، إلى حدّ كبير، تعدّد الطوائف والجماعات، فأغلب الانتصارات مؤدلج ويفتقر، حكماً، إلى الموضوعية، في وقتٍ لم يكن فيه الديكتاتور السوري سوى قناع لأيديولوجيا متطرّفة، وكلما أوغل الأسد المستبدّ في تلميع وجهه متنصلاً من قبح الأيديولوجيا كان أكثر التصاقاً بها.
من أخطر النتائج المتمخضة عن الحرب السورية توظيف الحقل السياسي لحرف الوقائع والحقائق عن سياقها الصحيح
السوري المهزوم اليوم، والذي أعيدت صياغته ليكون من دون ملامح أو تمايز، قد ألِفَ النصوص التي لا تحوج الى كثيرٍ من التأمل والفحص والتدقيق والمراجعة، ما يخدم مصلحة الديكتاتور. في المقابل، واحدةٌ من أخطر النتائج المتمخضة عن الحرب السورية تتمثل في توظيف الحقل السياسي لحرف الوقائع والحقائق عن سياقها الصحيح، وما نتج عن ذلك من اغتراب الهياكل السياسية وانفصالها عن قاعدة إسنادها الشعبي، بسبب تفكّك جسور التواصل والتفاهم بين الحاكم والمحكومين. يعتمد هذا التضليل على قراءةٍ انتقائيةٍ تجمع ما يناسب من الأحداث، ومن بعض التاريخ المعرفي حسب الحاجة، خصوصا في برامج تدريس التاريخ في المناهج الرسمية، والتي تذهب غالباً إلى تشويه الهوية الوطنية، وإعادة إنتاج شرعية النظام القائم. لنا في ذلك أمثلة عديدة، لعلّ أهمها وصف “الأسد الأب” الذي كان أول من قاد البلاد إلى خرابها الأخير، بالقائد الخالد والأب والمعلم والمنقذ وقائد التشرينين .. إلخ. نافل القول إنّ استكانة السوريين حالياً لم تتمخض عن فشل ثورة عام 2011، إنما لأنهم لم يستطيعوا على مدى تاريخهم أنْ يبنوا دولة، وإنما بنوا أنظمةً سياسيةً مرتبطةً بالقبيلة والطائفة وأهوائها، وهو ما يتناقض مع بناء الدولة وإقامة مؤسّسات. وهكذا كان النظام السوري دائماً: فرداً، وكانت المؤسسة التابعة له: قبيلة. لا تعدّد هنا، بل استتباع وإخضاع. ولا حرية بل تبعية. ولا وطن إذاً. بل محمية، وبستان ودكّان. دعونا نتذكّر.. أربعة أشهر بعد اعتلاء الحكم كانت كافيةً لأدولف هتلر ليحرق عشرين ألف كتاب يوم 10 مايو/ أيار 1933، في أول محرقة للكتب، قبالة واحدةٍ من أعرق الجامعات في العالم (جامعة هامبولت). كانت تلك أول حقنة مخدّر حقنها هتلر الغاضب في خاصرة الشعب الألماني المبهور آنذاك بأفكاره، فقد أراد سيّد الخطابة وبلاغة الكلام أن ينظّف ألمانيا من كلّ الشوائب البشرية التي تلوثها، خصوصا “عرق اليهود”، في خطوةٍ صريحةٍ لتشويه التاريخ. وهذا يدفعنا إلى التسليم بأنّ النظم الاستبدادية، أيّاً كانت تسميتها، من الناحيتين، الأيديولوجية والفلسفية، تحوّل النفاق إلى طبع مغروس، وتجعل الجهل فريضةً مقدّسة تُمارس بلا تفكير، متناسية أن التاريخ يكتبه الجميع، كانوا واعين بذلك أم لا.. وعليه أجزم أنّ “السوري سيعرف ما لم يعرفه يوماً” إذا ما سلّم يقيناً بما قاله تشرشل ذات يوم: “ادرس التاريخ .. ادرس التاريخ .. ادرس التاريخ .. هناك تكمن أسرار الحكم”.
المصدر: العربي الجديد