ليس هناك ما يشجّع على الثقة في التاريخ، ما دام من الممكن التلاعب به، خاصة في عصرنا الحاضر، بعدما أصبحت وسائل الإعلام من أدوات التضليل، بقيادة أنظمة، لا رادع يردعها عن دفن الحقائق.
قال ماركس: صحيح أن البشر هم الذين يصنعون التاريخ، لكنهم لا يعرفون كنه هذا التاريخ الذي يصنعونه. أوردنا هذه الإشارة لماركس لأننا نسعى إلى دحضها، نحن لسنا في زمن ماركس. فمن يصنعون التاريخ اليوم، يعرفون ما يصنعونه، إنه التاريخ البديل.
من حسن حظ التاريخ الحقيقي، أنه مؤجل، هذا إن لم يتبخر قبل مصادفته الحقيقة، الأفضل أن نعمل حساباً للأسوأ، فالحظ مع الزمن لا يساعد كثيراً. ما يُصنع من تواريخ على الهامش، قد يأتي وقت، إن لم تُفضح، فسوف تُعتمد على أنها المتن، إن لم يُبادر إلى كشف زيفها، لكن متى؟ السلطات تهيمن على هذه الصناعة.
في العصور الاستعمارية، كان الاستعمار احتلال أراض واستنزاف ثروات إلى حد بلغ المتاجرة بالأهالي، باعتبارهم ثروات بلا أرواح، فتحوّلوا إلى عبيد يباعون ويشترون. اعترفت الدول بهذه الحقيقة، وإن ظهرت بشكل مبكر روايات بديلة، فأصبح الاستعمار “تمديناً” لـ “الشعوب المتخلفة”، وتخليصاً لها من وثنيتها، وإرشادها إلى الدين الصحيح. نجحت بعض الجهود في الكشف عن زيفها، وكانت محدودة، بفصل الاستعمار عن التنصير، لا سيما وأن الهداية كانت تقوم بها كنائس تنشد العمل الصالح.
تهدف الرواية البديلة إلى الحلول محل الرواية الأصلية، وهي رواية واقعية نسجتها الوقائع والشهود والوثائق. إذا لم تفلح محاولات تسويق الرواية البديلة، فقد تنجح بالتشكيك بالأصلية، بحيث تبقى كلتاهما معلقة، عرضة للأخذ والرد من المؤرخين.
اختلاق رواية مزوَّرة، يحيلنا أيضاً إلى ما يبدو بحثاً تاريخياً، بالاعتماد على وثائق عثر عليها، أو نفض الغبار عنها، أو شهود ظهروا مؤخراً. إنها منهج دعائي يجمع بين زرع الشك، وخلخلة اليقين، وتحريض الرغبة لدى البشر في طي صفحة الحقائق المزعجة، ونسيانها إن اقتضى الأمر.
اليوم في أميركا وأوروبا، هناك من يحذّر من أن الصينين بصدد محاولة إعادة كتابة تاريخ نشأة فيروس كورونا، وفرض رواية بديلة تبعد الشبهة عنهم. بينما في أميركا يفكرون برواية بديلة تنقض الرواية الصينية. كلاهما إذا كانا يبحثان عن الحقائق، فبهدف إخفائها، لمساسها بالأمن القومي، فالبيولوجيا والكيماوي من الأسلحة السرية المعدة لقتل البشر.
تنشر روايات الحكومات مناخ الحرب في الإعلام، هذه الخدعة قد تخلق حرباً حقيقية من جراء تراشق الاتهامات. في حال كانت العداوات جاهزة، فالحرب قادمة، ينبغي الاستعداد لها.
ليست هناك دول ووسائل إعلام تروّج فقط، بل جهات متديّنة أيضاً يستهويها “تطبيق” المؤامرة على كل شيء، وما يخطر لها لا يقف عند حدوده، فيتخيلون سيناريوات تستغل الدين، يختلط فيها الجحيم بالعذاب، والنيران بالآلام، تستثمر غضب الله وعقابه ومخاوف البشر، ما يدفعهم إلى المساجد والكنائس، بعد طول غياب، يشجّعهم على ترويجها افتراض أنها عمل يؤجرون عليه، الفائدة المرجوة منها لا تخيب، طالما هناك أناس قانطون لديهم الاستعداد لتستبد بهم أفكار لاعقلانية ناتجة عن الهلع المرضي، وقد يموتون من الخوف لا من الوباء؛ عندئذ الرواية البديلة كابوسية.
لا نعدم في المثال السوري دليلاً فاضحاً على عمل النظام منذ بدء الربيع العربي، وطوال الحرب، على تسويق روايات مخالفة للحقيقة سواء عن المظاهرات السلمية التي تعرّضت لرصاص القناصة، وقمع المعارضين وقتل الآلاف في مراكز الاعتقال، والإعدامات الميدانية، والقصف الكيماوي، والتخطيط للمجازر… إنكارها لم يكن كافياً، رافقتها روايات بديلة شكّكت في وقوعها، على الرغم من لجوء الملايين إلى البلدان المجاورة والدول الغربية هرباً من الموت.
تعتبر الروايات البديلة التي تنحو إليها الحكومات وتعمل على تشجيع كتّابها الموالين لها على الدفاع عنها، ليست مجرّد إعدام للتاريخ فحسب، إنها تمثل في زمننا قضية أخلاقية عالمية، بمنع مناقشة ما تلجأ إليه الدول من وسائل لتحقيق مطامع إقليمية وطموحات إمبراطورية، والتذرّع بروايات تدعم أحلامها التوسعية أو تميزها عن غيرها، وربما كان في إصلاح أخلاق الحكومات، ما قد يفلح مع الدول الديمقراطية، أما الدكتاتورية التي بلا ضمير، فلا جدوى من أي جدل أخلاقي معها.
المصدر: العربي الجديد 9 يونيو 2020
* روائي من سورية