جسر: ثقافة:
في عام 1974 ومع تزايد مساحات التنقيب في إيبلا تم الكشف عن أرضية لبناء بدت وكأنها لقصر، رافق ذلك العثور على سلسلة من الرُقُم الطينية بلغ عددها 40 رُقيماً تعود لعام 2300 ق.م، وعلى الفور قامت البعثة الإيطالية باستدعاء خبير الكتابات جيوفاني بيتيناتو للكشف على الرُقم، وترجمة هذه النصوص وبيان اللغة التي كُتبت بها. وفي مؤتمر علماء الآشوريات والدراسات الآشورية قام بيتيناتو بتقديم ورقة عمل بيّن فيها أن “بعض” هذه النصوص مكتوب بلغة مجهولة على حد قوله، كما وصفها بأنها نوع من اللغات الكنعانية المبكرة، وقد أوضح في سياق تقديمه أنها “اقدم شكل معروف من اللغات السامية الغربية”. ونتيجة لاطلاع بيتيناتو على لغات معروفة أخرى مكتشفة في الجزيرة السورية والعراق؛ صرّح أن أكثر من 80% من مجموع النصوص الإبلائية مكتوب باللغة السومرية، وأن الـ20% المتبقية تعود للغة جديدة مكتوبة بما سمّاها (الكنعانية المبكرة)، ومما وفّر على بيتيناتو الجهد هو عثوره على مجموعة كبيرة من النصوص القاموسية التي سهّلت عليه البحث والترجمة والتي أُطلق عليها لاحقاً (اللغة الإبلائية).
رافق هذه الاكتشافات أو بعدها بقليل موجة من التصريحات الإعلامية حول “لغة كنعانية”، وصدور كتاب “إيبلا حضارة مكتشفة حديثاً في الشرق القديم” لكاتبين يهوديين هما حاييم برمانت وميكائيل وايتزمان، حيث يعمل أحدهما صحفي في وكالة إعلام يهودية والآخر أستاذ للدراسات العبرية واليهودية في جامعة لندن. وعدا عن أن ترجمة النصوص ليست من اختصاصهما، فقد بدأا بجمع المعلومات السطحية، واعتمدا على وسائل الإعلام وسط تخيلات مُوجّهة للإثارة والتشويق، وكل ذلك على حساب الموضوعية والمصداقية، حيث خلصا إلى أن السوريين هم أحفاد العبرانيين القدامى، وأن دولة عبرية ذات أعراف وتقاليد عريقة ممتدة الجذور كانت قابعة تحت التراب في إيبلا “تل مرديخ”، وزاعما أيضاً أنهما الوحيدان اللذان يملكان كل الحقائق.
ويذكر أستاذ المسماريات “بيغس” أن ما ذُكر عن إيبلا بما تحويه من نصوص قديمة يمثل مدرسة لاهوتية، وأن كل كلمة وردت في نصوصها لها ما يماثلها في صفحات العهد القديم، هو مجرد هراء لا قيمة له، لأن وايتزمان وبرمانت كانا مدفوعين باعتبارات سياسية تسعى لترويج هذه الاكتشافات. ويذكر محمد وحيد خياطة أن ما سببته الرُقم الطينية من إشكالات ومنازعات سببه محاولة ربطها بأسفار العهد القديم، وأن تلك المحفوظات العائدة للألف الثالث قبل الميلاد في معظمها ذات مضامين اقتصادية ولوائح قاموسية مدوّنة بلغة سامية قريبة من الأوغاريتية والفينيقية، وإن كانت أقدم منهما بألف عام. واختلف اللغويوين في تسمية هذه اللغة، فمنهم من أطلق عليها الكنعانية، ويرى آخرون أنها تمثل مرحلة ما قبل الكنعانية، ووصفها البعض أنها “لغة سامية شمالية غربية”، حتى استقر آراء جميع اللغويين أنها (لغة إبلائية) متفردة على الرغم من أنها أكثر وضوحاً وأيسر قراءة من اللغات في جنوب بلاد الرافدين.
تتضمن النصوص الإبلائية قصصاً وأساطير وأناشيد وابتهالات وتعاويذ وأمثالاً مشابهة للأمثال التي عُثر عليها في النصوص السومرية، وقواميس (إبلائية أكادية، سومرية أكادية، سومرية إبلائية) والعكس، بالإضافة لقواميس أخرى تصف الحيوانات والنباتات والعشائر وغيرها. إلا أن الموضوع المثير للجدل هو قراءة أسماء علم مثل إبراهيم وعيسو وشاؤول وداوود وإسرائيل وميكائيل وإيبر، بالإضافة لأسماء مواقع جغرافية مثل سودوم وعمورة وأورشاليم وهازر ولاحيش ومجيدو وغزة وسيناء وغيرها، كما زعم بيتيناتو أنه قرأ نصاً عن الخليقة والطوفان مشابه لما هو معروف في التوراة، أما أسماء العلم المركبة من اسم كبير الآلهة الكنعانية (إيل) مثل إسماعيل وميكائيل فلا تختلف كثيراً عما هو عليه من أسماء مركبة في بلاد الرافدين مثل يسمع هدد (ليسمع الإله هدد) أو إسماعيل (ليسمع إيل)، فهو في إيبلا إيل وفي بلاد الرافدين شماش وهدد ودجن وغيره.
وقد أشار علماء اللغات إلى ما يفيد بأن الأستاذ بيتيناتو عمل على أن يعطينا شرحاً وتحليلاً لأسماء العلم وأسماء المواقع إلا أنه لم يتطرق للجانب الأهم وهو قواعد اللفظ والنحو والتعبير، أما مقارنته لهذه الأسماء مع الأسماء التوراتية في أسفار العهد القديم واعتماده على اللغة العبرية وتفسير ما وصل إليه بها فهو خطأ فادح.