لتروي قصة مسيرة التلفزيون منذ انطلاقته وحتى اليوم”. (انظروا كم هو إعلام متقدم ذلك الذي يتحدث عن “الإضاءة بأنواعها”، كما لو أنها معلومة وخبر يستحق!). لكن في قلب تلك السيرة، التي تبدأ من شاشة تلفزيون صغيرة تستعيد مذيعة بالأبيض والأسود وهي تعلن: “هنا دمشق، هنا قلب العروبة النابض”، سنجد السيرة المضادة، كأنما يحكي الحفل نفسه عناصر موت التلفزيون العريق.
كيف يمكن الاحتفال بتلفزيون الأسد! كيف يمكن النظر إلى مفارقة “قلب العروبة النابض” اليوم عبر تلفزيون له مساهمته الأكبر في تشريد أبناء بلده وقتلهم وترويعهم! هل يمكن الاحتفال بتلفزيون كل برامجه كانت ترجمة للصوت الواحد، صوت الاستبداد، تلك التي كانت انعكاساً لسلطة البعث والعسكر وأجهزة المخابرات! ألا يكفي أن يرى المرء وزير إعلام كعماد سارة مكرِّماً، إلى جانب المخرج نجدت أنزور ممثلاً عن رئيس مجلس الشعب، حتى يفهم أي مصير آلت إليه واحدة من أقدم الشاشات في الوطن العربي؟
أما المكرَّمون فهم “جرحى الإعلام السوري، الذين واكبوا تغطية الحرب على سورية، وكانت كاميراتهم وأقلامهم ترافق بندقية الجندي العربي السوري”، إلى جانب إعلاميين كماريا ديب، صاحبة البرنامج الراسخ أبداً في ذاكرة السوريين، علامة على بؤس مخيلة إعلام النظام.
قد تصلح ماريا ديب وبرنامجها مناسبة لاستعادة نقاش قديم حول إعلام ذلك البلد. حيث أجيال من السوريين انبنت ذاكرتها على إيقاع ذلك التلفزيون في خلفية يوميات حياتهم. وقد تحمل تلك الأصوات عند استعادتها ذكريات وأحاسيس غامضة.
لقد اختلطت ذكرياتنا العميقة بصوت مهران يوسف ومروان شيخو وبرامج مثل “حماة الديار” و”الشرطة في خدمة الشعب”، فمن هم هؤلاء، وأي قيمة لتلك البرامج! لقد اختلطت بعض ذكرياتنا الحلوة، لقاءاتنا العائلية، مناسباتنا الجميلة بتلك الأصوات والبرامج الرديئة، إلى حدّ أنه قد شبّه للبعض أن تلك البرامج والأصوات هي جزء من ذكرياتنا الحلوة.
التلفزيون السوري، كما إعلام النظام عموماً، هو جزء من نكبتنا، وإن استعدنا فقراته ذات يوم فمن أجل أن نحوّلها إلى متحف لإعلام الطغاة والمتوحشين.
الإعلام متأدّباً
ليس فريداً من نوعه تقرير الزميلة في قناة “الجزيرة” فاطمة التريكي المعنون بـ “سوريا.. غارات جنونية على آخر مناطق المعارضة” لجهة الشعرنة والمنبرية العالية فيه، أداءً وكتابة.
لا شك أن المرء يقدّر عالياً المشاعر النبيلة، وربما ليس من السهل أمام الموت والمجزرة اليومية أن يتمالك الإعلامي، معدّ التقرير أو المذيع، دموعه وأحاسيسه، التي تظهر هنا على شكل كلمات توجع القلب، أو أداء مفعم بالعاطفة. لكن، مع ذلك، لا بدّ أن نقولها، ليس هذا من المهنية في شيء. إن التأدب، والإنشائية، لغة تصلح للأماسي الشعرية (ولطالما كُتب عن هذا الأمر، ويبدو أنه لا بدّ من العودة إليه مع كل نموذج إعلامي، بسبب طوفان هذا النوع وهذه اللغة).
في تقريرها تورد التريكي هذه العبارات: “أيحدث حقاً أم أنه اجترار ذاكرة”، و”الأنقاض الرمادية ذاتها تتكدّس”، “الوجوه الراقدة كأنها ما غابت، تنسلّ من الرماد غاضبة واجمة”. إلى آخرها من عبارات تذهب نحو الأدب والشعر أحياناً إلى حدّ أنها تستعير فعلاً من قصيدة لمحمود درويش، لتصف طياراً سورياً (أو روسياً) جاء يقصف، فيقول لضحاياه “ها أنتم ثانيةً؟ ألم أقتلكم؟”، لتتساءل بعدها “هل يرى قائد طائرة الموت وجوه ضحاياه؟”.
أداء التريكي، وقد بات أسلوباً يقلده زملاء كثيرون لها، هو بدوره منبري يجنح إلى رغبة بالوقوف على منصة الأدب والشعر.
يستحيل أن لا يكون المعنيون في “الجزيرة” على دراية كافية بمواطن الخلل في تقرير من هذا النوع، ولكن على ما يبدو فقد استسلموا لمباركة جماهيرية تطرب لهذا الأداء، الذي لم يعد مجرد خلل عاطفي طارئ، بل هو أسلوب كثير من تقارير القناة، من التريكي إلى ماجد عبدالهادي وسواهما.
السمينات والجنة المصرية
بات ثابتاً عدم صحة العظة المنقولة عن كاهن مسيحي برازيلي “السمينات لا يدخلن الجنة” المنقولة مع فيديو تدفع فيه امرأة الأب أثناء إلقائه كلمة. كل ما في الأمر أن المرأة مضطربة نفسياً وما من سبب واضح لفعلها، حيث أدلت لرجال الشرطة بأقوال متضاربة.
من الصعب تتبّع أصل الحكاية، كيف خطر لمن زوّر الخبر أن يضع هذا العنوان دون غيره.
لكن يمكن أن نصدق ببساطة واقعية هذه النظرة (ازدراء المرأة السمينة) بالنظر إلى تصريحات وزيرة الصحة المصرية التي انتقدت أخيراً “سمنة الممرضات والصيادلة”، قائلة إنه يتوجب على من يرغب الالتحاق بقطاع التمريض إنقاص وزنهم خلال ثلاثة أشهر، ما أثار جدلاً ومطالبات بإقالة الوزيرة، وما استوجب دفاعاً من الإعلامي عمرو أديب في حلقة من برنامجه “الحكاية”: “لقد خانها التعبير، لكنها لم تقصد إهانة الممرضات زائدات الوزن، وكانت تريد أن تطالبهن بالعناية بصحتهن حتى يستطعن أداء عملهن بشكل جيد”.
في “جنّة” الصحة المصرية كل شيء على ما يرام، لا أخطاء طبية، ونظافة المشافي في حدودها القصوى، والفقراء يحصلون على كامل حقهم في الصحة، هذه الجنّة لا ينقصها سوى طرد النساء السمينات.
لغةٌ إذا وقعتْ
-في تقرير “الجزيرة” المعنون بـ “سوريا.. غارات جنونية على آخر مناطق المعارضة” قرأت فاطمة التريكي: “كانت مبانٍ فيها بشر من لحم ودم وحلم”، والصحيح “كانت مبانيَ”. كما قرأت في مكان آخر من التقرير نفسه “وإن كانت مأساةُ شعبِها تقتيلاً وتهجيراً ذاتُ فائدة عظيمة..”، والصحيح “ذاتَ”.
– قرأت ليانا صالح في برنامج ثقافة على “فرانس24” في تقديمها لفقرة تتحدث عن معرض للفن في مدينة بازل السويسرية “تُقدَّم فيه أعمالاً فنية كثيرة”، والصحيح “أعمالٌ”.
-في الحلقة نفسها من برنامج “ثقافة”، وفي تقرير لفايزة زكنون، تتحدث فيه عن ممثل سوري يعمل مدرباً مسرحياً في مدينة الإسكندرية تقرأ: “اختار باسم العطار، ذي السبعة والثلاثين عاماً”، والصحيح “ذو”.
القدس العربي ٣٠ تموز/يوليو ٢٠١٩