محمد سامي الكيال٭
تثير المعارك الثقافية المعاصرة عادةً كثيراً من الضجيج والجدل، خاصةً ما يتعلق منها بقضايا الهوية، ورغم حدة الخلافات والانقسامات التي تسببها، إلا أنها غالباً ما تنحسر بسرعة، بدون الوصول إلى نتائج حاسمة، أو تطبيقات وممارسات واضحة على أرض الواقع. من الصعب اعتبار هذه المعارك مجرد تداولٍ استهلاكي لقيم أخلاقية وثقافية مسلّعة، فهي تشير إلى صراعات اجتماعية فعلية، إلا أنها أصبحت أشبه بفقاعة إعلامية ومشهدية قابلة للانفجار في أي لحظة. بعيداً عن هذا المظهر المتضخم، ترد مؤخراً أخبارٌ أكثر إثارة للقلق، تستدعي انتباه دوائر أضيق من المتابعين، حول اتساع الركود والانكماش في الاقتصاد العالمي، الذي يطال حالياً عشراً من الدول الأكثر تأثيراً، ومنها ألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي، التي تشهد مؤخراً بوادر انكماش هو الأول منذ سنوات. من الواضح أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، وسعي بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتباطؤ الاقتصاد الصيني، وأزمات الديون والتقشف، لا يمكن أن تمرّ بسهولة، ما يدفع بعض الخبراء للتحذير من أزمة اقتصادية عالمية جديدة.
اعتبر المنظرون الثقافيون صعود القضايا المتعلقة بالذات والثقافة والهوية نتيجةً لاضمحلال «مجتمعات الكربون»، فعندما يبدو أن الوقائع الصلبة، مثل الإنتاج والبنى التحتية وقضايا العمل، فقدت أهميتها الحاسمة في تحديد الأوضاع الاجتماعية، وأن عصر «الفولاذ والفحم» وصل إلى نهايته لحساب اقتصاد المعلومات والخدمات، تزدهر «المرونة» بتنويعاتها: مرونة سوق العمل، العلاقات الاجتماعية، الحدود القومية والقوانين، الخ. ولكنَّ الوقائع الصلبة لم تتراجع للدرجة التي يظنها كثيرون. أحد أهم بوادر الأزمة، التي قد تأتي من أوروبا، هو تراجع الصناعة الإلمانية، وعدم قدرتها على التصدي المناسب لتحديات المنافسة العالمية و«المنعطف البيئي» والصراعات الجمركية. علماً أن ألمانيا استطاعت الخروج سريعاً من أزمة عام 2008، لأنها تعتمد أكثر على «الاقتصاد الحقيقي»، القائم على الإنتاج المادي الفعلي. وبالتالي تحتاج «المرونة» فعلياً للازدهار الذي تخلقه الصناعة. فما الذي قد يحدث لـ«المرنين» وقضاياهم إن فقدوا قاعدتهم الصلبة غير «النظيفة»؟ وهل لدى سياسات الهوية ما تقوله فعلاً حول الصراعات التي من الممكن أن تندلع في المستقبل؟
هدم اللذّات الأخلاقية
على الرغم من الآثار الكارثية للأزمة المالية العالمية، استطاعت الاقتصادات الرأسمالية الكبرى تحقيق شيء من التعافي، ليس دون آثار جانبية مؤلمة. وبعد أن رأينا عمالاً فرنسيين يحاصرون أرباب عملهم، وإضرابات عمالية بالجملة على ضفتي الأطلسي والمتوسط، فضلاً عن انفجار الثورات في العالم العربي، استعادت المرونة الاجتماعية عافيتها، وتصاعدت على مسارين متضاربين أحياناً، ومتوازيين كثيراً من الأحيان: الأول هو اكتشاف الذات الفردية، وجعل نمط الحياة والتفضيلات الثقافية قضايا محورية. والثاني هو الأخلاقوية، التي يُظهر عبرها «الفردانيون» مزيجاً من اليسوعية المعلمنة والرقابة الذاتية الصارمة. من السهل عموماً اتخاذ أكثر المواقف «نظافة» في دول بنت ازدهارها لعقود على إحراق الفحم وصناعة محركات الاحتراق الداخلي، ومن ثمَّ صدّرت تلوثها بعيداً، حيث العمالة الرخيصة والمدن التي تغطيها سحب الدخان. ومن الأسهل مواجهة السياسة بالأخلاق: أن تبدو متسامياً على ضرورات المجتمع والحياة اليومية، «صحيحاً» دائماً، وعارفاً لحدود الصواب والخطأ، لتلقي اللوم على الآخر اللاأخلاقي، الموجود دائماً «هناك»، السياسيين والرأسماليين والكولونياليين والذكور البيض. كما يمكن دوماً خلق الرموز والشخصيات الأخلاقية، التي لن تضطر يوماً لخوض انتخابات، ومواجهة مطالب البشر واعتراضاتهم ومخاوفهم. هكذا يستطيع نظام الأخلاق تبسيط تعقيد العالم، ومحاكمة كل شيء حسب مرجعيته الذاتية. مع تلذذ واضح بجعل الذات متعالية ومنفصلة عن كل بشاعة الواقع.
إلا أن نظام الأخلاق لا يمكن أن يشمل المجتمع بأسره. إذا انفجرت الأزمة سيطغى تعقيد العالم من جديد على تبسيط الأيديولوجيا السائدة، وسيدرك الأخلاقويون أنهم لم يكونوا متسامين للدرجة التي يتصورونها، وأن نظافتهم لم تكن ممكنة لولا كثيرٍ من القذارة. هدم اللذّات الأخلاقية هذه ضروري جداً برأينا، فهو قد يعيد التفكير الإيتيقي على حساب طغيان الأخلاق Moral، فلا يتعلّق السؤال عندها بالقواعد الصحيحة المطلقة للسلوك الإنساني، والأكواد الأخلاقية التي يجب فرضها، بل بتفكير أكثر تعمقاً وأقل استعلاءً، قادر على تحليل ممكنات السلوك الفردي والاجتماعي، وإظهار تعقيدها وتناقضاتها وسياقاتها المتضاربة: كيف تُصنع القيم وتنتشر، وكيف يمكن نقدها وتجاوزها، أو تأويلها من جديد. تحتاج السياسة والنضال الاجتماعي في عصور الأزمات كثيراً من الإيتيقيا.
تزييف النقيض الاجتماعي
ارتبطت الأخلاقوية المسيسة طيلة العقود الماضية بنوع من التنزيه الاجتماعي والثقافي لفئات معينة، اعتُبرت خارجية بالنسبة للمنظومة السائدة، أو تقبع على تخومها، وبريئةً بالتالي من خطاياها، على خلاف التنظير الماركسي الكلاسيكي حول النقيض الاجتماعي الذي يولد داخل المنظومة نفسها، يحمل طابعها ويتجاوزها في الآن ذاته، ومثاله الأبرز الطبقة العاملة التي خلقها التصنيع الرأسمالي، ولكنها تملك الإمكانية لتجاوز الرأسمالية وعلاقاتها، وإطلاق القوى المنتجة وتطويرها بدون حدود. هذا النقيض لم يعد مقنعاً لكثيرين منذ نهاية الستينيات، حين رأى عدد من المفكرين أن الطبقة العاملة تم دمجها في العالم البورجوازي، فخسرت إمكانيتها بوصفها نقيضاً، وتورطت أكثر من اللازم في المشروع القمعي والإقصائي للتحديث، ما دفع هؤلاء المفكرين للبحث عن نقيضٍ جديد، وجدوه في المهمشين والمقصيين والمتمردين. ومنذ ذلك الحين استمر البحث عن نقيضٍ مُنزّه،. في السبعينيات والثمانينيات وجد البعض ضالتهم في «الإسلام»، عندما تحدث ميشيل فوكو عن «السياسات الروحانية»، وفرانسوا بورغا عن الإسلام السياسي بوصفه «صوت الجنوب». وفي عصرنا، الذي غاب فيه حديث النقائض، لحساب التظلّم والميل للعب دور الضحية، تتم دوماً صناعة المُنزّهين، النساء، المثليين، الشباب، الأقليات، الخ. لا يعني هذا أن هذه الفئات لا تملك قضاياها المحقة، وقدرتها على التغيير، ولكن آليات إعادة إنتاج الهوية، واختزال البشر بها، وخصخصة التجمهر في الحيز العام باسم فئات بعينها (مسيرات النساء، الشباب في «جمعة للمستقبل»، إلخ)، يجعل الصراع قائماً بين منزهين ومدنسين، ويغيّب تعددية الإمكانات الاجتماعية والسياسية وتشابكاتها. سواء استدعى الصراع الاجتماعي العودة إلى مبدأ التفاوض الجماعي، أو محاولة تحويل «الجمهور إلى طبقة»، حسب تعبير المفكر الإيطالي أنطونيو نيغري، تكون قادرة على تجاوز المنظومة القائمة أو نقضها، فإن الصراعات المقبلة لن يخوضها مُنزّهون، بل أفراد وجماعات متورطة بشدة في المشكلات القائمة، وتتحمل جانباً من المسؤولية عنها. في حين أن سياسات ما يسمى يساراً في أيامنا لن تكون قادرة على الاستمرار في زمن الأزمات الأكثر حدة، فهي تغلق أبواب التفاوض، وتزيّف النقائض.
جمهور الأزمة
لا يمكن التنبؤ فعلياً بالشكل الذي ستتخذه أزمات المستقبل، وإذا ما كانت ستأتي على شكل انهيارٍ مفاجئ وصادم، أم انكماشٍ وتباطؤ اقتصادي مديد، يزيد تدريجياً الفقر والبطالة واليأس الاجتماعي. ولكن ما هو مثبت تجريبياً، إلى حد كبير، أن الثورات الاجتماعية تأتي مع نهاية الدورات الاقتصادية، فبعد الازدهار سيأتي الكساد، والفقاعات المالية والعقارية ستنفجر بالنهاية.
هذه من قوانين الرأسمالية التي لن تتغير. سيؤدي هذا إلى تحركات اجتماعية أكثر جذرية، جمهورها هم الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة مادية: العمال، الفئات الأدنى من الطبقة الوسطى، الشغيلة المؤقتون وغير المستقرين في وظائفهم، المستثمرون الصغار، وحتى من كانوا يعدّون إلى الآن من المستفيدين من العولمة، مثل بعض الصحافيين والأكاديميين والعمالة الخبيرة، إناثاً وذكوراً، مثليين ومغايرين، من كل الأعراق والثقافات. هذا الجمهور قد يغرق في الفوضى الاجتماعية، أو يبتكر أساليب جديدة للتضامن. لا يوجد ما هو محسوم سلفاً في السيرورات الاجتماعية.
بكل الأحوال فإن سياسات الهوية لن تكون عاملاً إيجابياً ضمن هذه السياقات، وربما تصبح سلاحاً لتفتيت الجمهور ودفعه إلى صراعات عبثية. مدن «التعددية الثقافية» ليست فقط ميداناً للفرح واكتشاف الذات والآخر، بل تخفي في زواياها أيضاً كثيراً من التوتر والعداء والحواجز غير المرئية، التي يمكن أن تصبح خطوط اشتباك. أما المدن «الرمادية» في العالم العربي فهي بالكاد تستطيع الاستمرار، والحفاظ على الحد الأدنى من سِلمها الاجتماعي، وقدرة سكانها على البقاء، ولذلك فإن أي تحرك اجتماعي مقبل يجب، في تقديرنا، أن يحمل جانبه الثقافي والأيديولوجي الواضح. فبدون قدرة البشر على خلق المشتركات وإعادة تفسير العالم، بناءً على الإمكانات التواصلية التي تحويها لغتهم وحياتهم العادية، لا إمكانية لأي فعل تضامني أو حراك منظّم. هكذا يصبح تجاوز «عصر الهوية»، الذي غرقنا فيه لأكثر من أربعة عقود، من المهام الأكثر إلحاحاً في عصرنا، كي تصبح طاقة «الجمهور» ورغباته فعلاً مؤسِّساً، لا انفجاراتٍ عشوائية من شأنها تهديد التحضّر.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي 23 آب/أغسطس 2019