جسر – صحافة
عبد الناصر العايد
يفكّر بعض أعضاء المجموعة بتحويلها إلى جمعية مدنية من تلك الشائعة في أوروبا عموماً، والتي تتمتع بوضع قانوني يعفيها من الضرائب ويوفر لها بعض الدعم والتمويل أحياناً، فيما يسعى البعض لاستئجار مقر دائم يكون بمثابة نقطة ارتكاز فيزيائية لأنشطة دائمة ومستمرة.
يوم الأحد الفائت، التأم شمل المجموعة، وكان كاتب هذه السطور ضيفاً عليها، وكما هي العادة كان موضوع النقاش الثقافة والأدب والفكر وتناول آخر التطورات في الملف السوري على كافة الصعد. وكان الحضور متنوعاً طائفياً وعرقياً. الخلفيات العلمية للجميع جيدة جداً، ومستوى اندماجهم عالٍ، والجميع تقريباً يساريون أو ديموقراطيون بدرجات متفاوتة، والجميع من نشطاء الثورة السورية الذين غادروا ديارهم بسبب انخراطهم فيها.
كلمات المتحاورين كانت محسوبة بعناية، رغم أن الحوار بدأ وامتد طويلاً في شؤون الثقافة والأدب. البعض كان صامتاً، مثل شاب يتحدر من طرطوس، وعندما سأله كاتب هذه السطور عن بلدته، ابتسم قائلاً: “تريد أن تعرف طائفتي.. حسناً أنا علَوي!”. تظاهر السائل بأنه لم يندهش، فأكمل الشاب: “وطبعاً ضد الأسد ونظامه”. الآخرون صمتوا، بنوع من الرفض الضمني للإعلانات الطائفية أو العرقية أو الإثنية.
في سياق الإجابة عن السؤال السوري الرائج حول “ما العمل؟”، قلت إن سوريا تحتاج إلى كيان سياسي وطني ديموقراطي، يرتكز على المليوني لاجئ في أوروبا، وإلا ستدور في حلقة مفرغة زمناً طويلاً، وإن شرط نجاح هذا الكيان هو وجود السنّة الديموقراطيين في مركزه، بوصفه مشروعهم ومسؤوليتهم قبل أي فئة أخرى، لكن للمشروع ركيزة أخرى لا غنى عنها هي الوطنيون من كافة الأقليات الطائفية والعرقية.
حلّ الصمت، حتى قطعه صديقنا الكردي، وهو ذو توجه وطني لا غبار عليه، وتساءل:” أنت تقصد العرب السنّة، ماذا عني أنا الكردي السنّي؟ أو لأقل لك: أنا لا أقبل هذه الرؤية جملة وتفصيلاً، ولا السوريون بالعموم يقبلونها، متى كنا كذلك؟ أنا كردي وجدتي تركمانية وزوجتي عربية”. هبّ سنيّان لمؤازرته: “نحن لا نتفق مع هذا الطرح أيضاً.. نحن سوريون، وسوريون فقط”. قال حامل دكتوراه اسماعيلي: “أيضاً، هذا متناقض منطقياً، كيف يستقيم أن تؤسس الوطنية الديموقراطية على انقسام طائفي؟”، كان عليّ أن أوضح بأن كون المرء قد وُلد في طائفة أو جماعة اثنية ما، لا يجعله طائفياً أو قومياً بالضرورة، وان الاندماج الاجتماعي في سوريا الذي يبلور هوية وطنية عامة تتجاوز الهويات الفرعية هو موضوع نضال طويل، وليس معطى موجوداً بين أيدينا اليوم، ولا يمكن نسبغه على الواقع بكلمة واحدة، بينما تخبرنا كل الأحداث التي تجري في هذا البلد منذ عشر سنوات بخلاف ذلك. أحدهم اعترض بأن الانقسامات الظاهرة غير حقيقية، وقد أوجدها نظام الأسد وجهات لها مصلحة في المعارضة، أما الشعب السوري فقد قال كلمته في التظاهرات الأولى: “الشعب السوري واحد”.
هنا، تدخّل صديقنا العلَويّ، اعترض على ما قاله الجميع، فالمجتمع السوري غير مندمج كما يقول البعض، وليس واحداً، وأما المشروع الوطني الديموقراطي الذي تم طرحه فقد تساءل إن لم يكن هو مشروع حزب البعث ذاته: “ألم يؤسس البعثَ متنورون سنّة وأقلويون كمشروع عابر للطوائف، ثم انتهى بتفرد أحد طرفي المعادلة بالسلطة ليحدث ما حدث؟”. وما أضمره كان الأهم في ما اعتقد: “أليس من المحتمل أن ينفرد السنّة غداً بالسلطة ليفرضوا على الأقليات ديكتاتوريتهم تحت مسمى الديموقراطية، كما فرضها نظام الأسد على السنّة تحت شعار القومية؟”.
انتهى الزمن المحدد للقاء وافترق السامرون، وفي البال أسئلة كثيرة، طرحتُ بعضها في اليوم التالي على مناضل مخضرم في حزب العمل الشيوعي (رابطة العمل سابقاً) يقيم في نانسي أيضاً مع عائلته، وهو اسماعيلي من طرطوس. فكانت إجابات “الخبير” الستيني مقترنة أكثر بالأمثلة الواقعية التي يستمدها من التجربة النضالية الفعلية لجماعته، فقال أن سؤال انخراط السنّة في “الرابطة” كان مدار بحث منذ نشأتها، كنا ندرك أننا علمانيون، بقيادة وجسد أقلوي، وكنا ندرك أننا لن نتقدم خطوة واحدة مع هذه الإعاقة، لكن النفاذ إلى العمق السنّي بدا صعباً للغاية، وكان يساريو الأقليات يستسهلون استبعادهم بالقول أنه لمن المستحيل أن يخرج هؤلاء من عباءة “شيخ الجامع”. لكن سعي الرابطة، وفق المناضل الشيوعي، كشف وجود نسبة من السنّة العلمانيين واليساريين لا تقل عن نسبة هؤلاء في الأقليات، وسرد أسماء وأعداداً لمناضلين في الرابطة تحديداً من بيئات سنّية، لم تكن لتخطر لهم في بال، من حي صليبة في اللاذقية إلى قرى دير الزور النائية، وأكد أن هؤلاء لم يكونوا أقل إخلاصاً فكرياً ونضالياً لقيمهم، من سواهم، بل تفوقوا على بعض قيادات الرابطة ذاتها، مثل القيادي الشهير فاتح جاموس، الذي تبنى موقفاً طائفياً يتناقض مع كل ما بشّر به سابقاً، ما إن تفجرت الثورة السورية.
عرج المناضل الشيوعي في حديثه على اسم منطقة، وقال إن النظرة ذاتها يحملها بعض شبابنا هنا إلى أهالي فوندوفر”. لم أفهم، فأوضح لي: “فوندوفر، حيّ في نانسي، يتجمع فيه إسلاميون من تركيا وفلسطين وتونس والجزائر وغيرها، وقد توجه إليه معظم اللاجئين السوريين السنّة تلقائياً، وهم في غالبيتهم إما من بيئات محافظة عانَت تنكيل السلطة، أو من خلفية إسلامية سياسية كالإخوان المسلمين أو تنظيم الطليعة المقاتلة، وقد بنوا مسجداً هناك، ولديهم حياة اجتماعية حيوية، لكنها مطابقة لتلك التي كانوا يعيشونها في سوريا، وعلاقتهم بالمجتمع الفرنسي المضيف محدودة”.
وأوضح أنه حاول، وما زال، التواصل معهم، إلا أن الردّ الأول الذي تلقاه من عائلات من بابا عمرو كان عنيفاً، لأن لهجته مطابقة للهجة العلويين الذين “قتلوهم”. وحين شرح لهم أنه معارض للنظام وأنه سُجن طويلاً، تغيرت نظرتهم إليه، لكن رفض التواصل ما زال قائماً. وأضاف أنه في عيد الثورة السورية الماضي، دعا لتظاهرة، لم يحضرها سوى مئة سوري، في حين أنه عندما انفجرت أحداث الشيخ جراح وتدخلت حركة “حماس”، خرجت تظاهرة من نحو ألف شخص من هذا الحي، معظمهم من السوريين الذين لم يأبهوا لمناسبة وطنية هي ذكرى الثورة، رغم كل ما تعنيه لهم.
لم يسعفني الوقت لزيارة حي فوندوفر وأهله قبل مغادرة نانسي، التي لم تعد “مدينة الأقليات السوريّة”، بل المكان الذي ينشأ فيه توتر منتج على طرفي صدع جديد هو الجامع/الجمعية المدَنية، رغم تعثر هذه الأخيرة وتلكؤ من يفترض أن ينهض بها من الديمقراطيين السوريين.
المصدر: موقع المدن