جسر: متابعات:
لم تكد تحل الذكرى السنوية الأولى للإعلان عن مقتل القيادي الأردني في تنظيم “حراس الدين” أياد الطوباسي “أبو جليبيب”، حتى تم الاعلان عن مقتل مواطنه وأحد مؤسسي “الحراس” بلال خريسات “أبو خديجة الأردني”.
وقضى خريسات، الأحد، في هجوم بطائرة من دون طيار، استهدفت سيارته بصاروخ قرب بلدة ترمانين بريف إدلب على الحدود السورية التركية، ليكون سابع قيادي بارز في “حراس الدين” يقتل خلال عام واحد.
وبعد الإعلان عن مقتل الطوباسي في ظروف غامضة عند الحدود السورية-الأردنية، في كانون الأول/ديسمبر 2018، مع مرافقه “أبو طلحة الأردني”، توالت العمليات التي يقودها “التحالف الدولي” في استهداف قادة التنظيم. إذ قصفت طائرة أميركية مقراً لـ”حراس الدين” في ريف حلب الغربي، مطلع حزيران/يوليو 2019، ما أدى لمقتل خمسة من قادة الجماعة على الأقل.
وفي آب/أغسطس 2019، قُتِلَ القيادي في “الحراس” الملقب بـ”أبو الوليد التونسي”، بانفجار عبوة ناسفة استهدفت سيارته قرب بلدة تفتناز بريف إدلب. وتزامن ذلك مع تسجيل أول خلافات داخلية بين قادة “حراس الدين”، قبل شهر واحد من تصنيف الولايات المتحدة لـ”الجماعة” على لوائح الإرهاب، وتخصيصها مكافآت مالية ضخمة لمن يدلي بمعلومات حول قادتها.
واللافت أن بين خمسة من قادة “حراس الدين” الرئيسين المعروفين على نطاق واسع، والذين ساهموا بتأسيسه في شباط/فبراير 2018، هناك ثلاثة أردنيين. كما أن الغالبية العظمى من مقاتلي التنظيم هم من الجهاديين الأردنيين، ما جعله بنظر الكثيرين بمثابة التشكيل الجهادي الأردني في سوريا.
وكان قادة التيار الجهادي الأردني قد انشقوا عن “جبهة فتح الشام” بعد إعلان فك ارتباطها بتنظيم “القاعدة” في العام 2016، بعدما كانوا أبرز أركانها، ومنهم سامي العريدي وأبو جليبيب الأردني وأبو خديجة، مع 500 مقاتل أردني، بالإضافة إلى القائد العسكري السابق لـ”النصرة” السوري “أبو همام الشامي”، مع عدد آخر من القادة الذين تمسكوا بالتبعية للتنظيم الأم “القاعدة”، وشكلوا فيما بعد الفرع الجديد لها في سوريا.
وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي واجهتها، إلا أن الجماعة الجديدة تمكنت من الحفاظ على وجودها في منطقة مليئة بالخصوم والأعداء. ولا يتعلق ذلك بقوى المعارضة المحلية فقط، بل وبالدرجة الأولى بـ”هيئة تحرير الشام” التي سعت جاهدة لمنع تشكل “حراس الدين”، واعتقلت معظم قياديه نهاية العام 2017، وعلى رأسهم الأردنيين الثلاثة، قبل أن ترضخ لضغوط من التيار السلفي الجهادي وتطلق سراحهم.
استفاد “حراس الدين” في تثبيت وجوده وتجاوز الظروف الصعبة التي واجهها بداية تشكله من الدعم الذي تلقاه من جانب “لواء أنصار التوحيد”، وهو الفصيل الذي يضم من تبقى من قادة ومقاتلي “لواء جند الأقصى” الذي التحق غالبيته بتنظيم “الدولة الاسلامية” في العام 2016. وقد أسهم التأثير الكبير الذي يتمتع به الداعية الجهادي الأردني “أبو محمد المقدسي” لدى “أنصار التوحيد” في دعم “حراس الدين”، على اعتبار أنه يحظى بالمكانة ذاتها داخل “حراس الدين”.
ولم يكد هذا التشكيل يتجاوز محنة الولادة حتى بدأت الخلافات الداخلية تظهر، فوقع الانقسام الأول في تموز/يوليو 2018، عندما قرر العشرات من المقاتلين، وغالبيتهم من تونس ومنطقة الخليج، رفض القتال إلى جانب فصائل المعارضة الأخرى في ريف حماة، المنطقة التي كانت تتعرض لهجوم واسع من قوات النظام وحلفائها. وانتهى ذلك بانشقاق قسم من هؤلاء عن “الحراس”، من دون أن يتسبب بأزمة كبيرة.
لكن هذا الخلاف سيشكل بداية تصدعات لن تتوقف بعد ذلك، خاصة مع المعاناة المادية التي واجهها “حراس الدين”، وكذلك التنافس بين قادته من الصفين الأول والثاني، والتي كان أحد أهم تجلياتها إعلان “أبو اليمان الوزاني” انشقاقه في تشرين الأول/أوكتوبر 2019. و”الوزاني” هو قائد كتيبة يبلغ تعدادها 200 مقاتل، وقد اعتقلته “هيئة تحرير الشام” بعد انشقاقه.
لكن ما لم يتم الإعلان عنه من قبل، هو استقالة “أبو خديجة الأردني” من قيادة “حراس الدين” قبل شهرين من مقتله، بسبب خلافات مع كل من “أبو همام السوري” وسامي العريدي، الذين باتا بحسب مصادر “المدن”، يسيطران بشكل كامل على “الحراس” ويمسكان بكل الخيوط فيه. ورغم عدم وجود استقالة رسمية، إلا أن تأخر قيادة “حراس الدين” بنعي خريسات أكدت بالنسبة للكثيرين هذه المعلومة.
وسبق لـ”أبو خديجة” أن شغل منصب القاضي الشرعي لـ”جبهة النصرة” في الغوطة الشرقية، التي تمكن مغادرتها مع قادة آخرين عام 2015، ليعين قائداً لـ”النصرة” على منطقة السعن في البادية السورية، قبل أن يعلن انشقاقه عنها في حزيران/يوليو 2016، عند إعلان انفصالها عن “القاعدة”.
لا يمتلك بلال خريسات سجلاً مميزاً داخل التيار السلفي الجهادي، على عكس مواطنيه، “أبو جليبيب” وسامي العريدي، الذين يحظيان بشهرة واسعة مكنتهما من لعب دور هام في تأسيس وقيادة “جبهة النصرة”، والتمكين لها، خاصة في الظروف الصعبة التي عانتها إبان المواجهات مع تنظيم “الدولة الإسلامية” عامي 2013-2014، وهي المواجهات التي أحدثت انقساماً كبيراً بين الجهاديين الأردنيين.
جهاديو المملكة، البالغ عددهم نحو خمسة آلاف شخص بحسب تقديرات قادة التيار، وبعد أن وقفوا صفاً واحداً خلف “جبهة النصرة” منذ تأسيسها والتحق بصفوفها حتى منتصف العام 2013 نحو 1500 مقاتل منهم، توجه غالبيتهم بعد ذلك لتأييد تنظيم “الدولة الإسلامية”، والتحق عدد مماثل تقريباً من شباب التيار بمناطق سيطرة “داعش” في سوريا والعراق، إلى جانب من سبقهم من قادة ومقاتلين أردنيين كانوا في صفوف “جبهة النصرة”.
حدث ذلك على الرغم من وقوف أبرز رموز التيار الجهادي الأردني إلى جانب “النصرة” و”القاعدة” ضد “الدولة”، وفي مقدمتهم، “أبو محمد المقدسي” و”أبو قتادة الفلسطيني”، واياد القنيبي، وأبو محمد الطحاوي وغيرهم.
إلا أن تمكن “داعش” من تحقيق انتصارات مبهرة في العام 2014، وانجازه مرحلة “التمكين” بإعلانه “دولة الخلافة”؛ حُلُم السلفية الجهادية، جعل الغالبية العظمى من جيل الشباب من الجهاديبن الأردنيين يلتحقون بتنظيم “الدولة”.
كما أسهم التحاق بعض قادة التيار بـ”داعش” في تعزيز مكانته بين الجهاديين الأردنيين، ولعل أبرزهم سعد الحنيطي، الذي أعلن الالتحاق بتنظيم “الدولة” في تشرين الأول/أوكتوبر 2014. وفي الوقت ذاته تقريباً، قالت مواقع التواصل الاجتماعي المؤيدة لـ”داعش” بما وصفته “نفير الشيخ عمر مهدي زيدان” الملقب بـ”أبي المنذر” ووصوله إلى “دولة الخلافة”.
لم يكن الخلاف حول “داعش” هو الانقسام الأول بين الجهاديين الأردنيين، إذ سبقه قبل ذلك خلاف يتعلق بالموقف من المشاركة في المظاهرات الشعبية التي شهدها الأردن بين العامين 2011-2012. واللافت أن المرجعيات التي أيدت المشاركة في هذه المظاهرات، دعمت “جبهة النصرة” وتنظيم “القاعدة” على حساب تنظيم “الدولة”، الذي التحق به أو أعلن تأييده كل من رفض الاحتجاجات السلمية باعتبارها من “مفرزات الديموقراطية الحرام”.
إلا أن الخلاف الأول والأهم الذي عصف بالتيار داخل الأردن كان بين اثنين من مؤسسيه؛ “أبو محمد المقدسي” والإرهابي “أبو مصعب الزرقاوي”، مؤسس “الدولة الإسلامية” في العراق لاحقاً، حيث شهدت العلاقة بين الاثنين تدهوراً كبيراً في السجن الذي أودعا فيه مع العشرات من اتباعهما بين العامين 1994-1999. خلاف سيتطور بين “الاستاذ” المقدسي و”التلميذ” الزرقاوي بسبب انتقاد الأول لسياسة الأخير في قيادة تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين”، وكذلك رفض المقدسي لعسكرة التيار في الأردن.
وتعود العلاقة بين الاثنين إلى مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بعد عودة “أبو محمد المقدسي” من الكويت، ومن ثم سفرهما معاً إلى افغانستان، التي عادا منها بعد ذلك عام 1993، ليشكلا النواة الأولى للسلفية الجهادية في الأردن، أو جماعة “بيعة الإمام” التي تم تفكيكها بعد أقل من عام، وألقي القبض على جميع أفرادها وقادتها، الذين خرجوا من السجن بعفو ملكي عام 1999، غداة تنصيب الملك عبدالله الثاني.
ومع مغادرة الزرقاوي إلى العراق عام 2003، واستقطابه الغالبية العظمى من شباب التيار الأردنيين للقتال معه هناك، بدى أن هذا التطور مريح للأجهزة الأمنية في الأردن، لكن حدثان كبيران وقعا بعد ذلك تسببا بأزمة بين الطرفين مجدداً؛ سلسلة التفجيرات التي استهدفت ثلاثة فنادق كبيرة في العاصمة عمان عام 2005 وأدت لمقتل نحو 70 شخصاً على يد انتحاريين جنّدهم الزرقاوي، ومخطط أفشلته المخابرات الأردنية قبل وقوعه باستهداف “القاعدة في بلاد الرافدين” السفارة الأميركية في عمان ومجلس الوزراء ومقر المخابرات العامة، بالسلاح الكيماوي، حسب اعترافات المسؤول عن العملية، عزمي الجيوسي.
وأسهمت حملة الاعتقالات الواسعة التي نفذتها السلطات الأردنية والتضييق الكبير الذي فرضته على السلفيين الجهاديين في البلاد بعد ذلك بكمون التيار داخلياً حتى عام 2011. إذ دعت مرجعيات التيار بعد ذلك الشباب للالتحاق بصفوف “جبهة النصرة” للقتال ضد النظام في سوريا. ومن ثم جاءت المظاهرات المحلية لتسهم في بث المزيد من الحيوية فيه لثلاث سنوات، بلغ فيها الجهاديون الأردنيون ذروة نشاطهم، قبل أن تشن الحكومة حملة مكافحة واسعة جديدة ضدهم، عقب إحراق تنظيم “الدولة” للطيار الأردني معاذ الكساسبة عام 2015.
مع الهزائم المتتالية التي تعرض لها “داعش” خلال العامين الماضيين، اختفى ذكر الشخصيات الجهادية البارزة التي التحقت به. وبمقتل إياد الطوباسي “أبو جليبيب” العام الماضي، وهو صهر “أبو مصعب الزرقاوي” ورفيق دربه في العراق، لم يبق من الاسماء الجهادية الأردنية الكبيرة التي غادرت إلى سوريا سوى عدد محدود، لم يكن في مقدمتهم بلال خريسات “أبو خديجة” الذي قضى قبل يومين، والذي يصنف مع مصطفى عبداللطيف “أبو أنس الصحابة” من وجوه الصف الثاني في التيار، في حين يُعتبر سامي العريدي، الشخصية الأبرز المتبقية.
ولا يعني ذلك تخلص عمان من ملف مرهق بالنسبة لها. إذ تواجه الحكومة اليوم، مثلها مثل جميع الدول التي التحق مواطنوها بالجماعات الجهادية في سوريا والعراق، ملف عودة البعض منهم. وهي المسألة التي تبدو بالنسبة للأردن أكثر تعقيداً، بسبب طبيعة مجتمعاته المحلية التي لا ترفض عودتهم، كما هو الحال بالنسبة للدول الغربية.
(المدن)