نجم الدين النجم
ظهر أحمد الشرع -الاسم المعتمد الجديد لـ “أبو محمد الجولاني”- الجهادي الملاحق من الولايات المتحدة الأمريكية، يصلي في الجامع الأموي بدمشق، محاطاً بالجماهير والكاميرات والهتافات الحماسية، في مشاهد وكأنها مقتبسة من حلم في “نومة عصر” لشخص مجنون لا يعيش في كوكب الأرض!
حُلم غريب في عالم الأحلام ليلاً وظهراً وعصراً، مستحيل في واقع هذا العالم تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، شديد الروعة والقباحة في آن معاً، لا وجود فيه لبشار الأسد، وكل الوجود فيه بقبضة أبو محمد الجولاني!
فرحة عارمة في قلوب السوريين الذين ولدوا وعاشوا ولم يعرفوا فرحة مثلها طيلة حياتهم، وخوف مؤلم فرض نفسه رغماً عن أنف الفرحة الضخمة، من مستقبل لا يستطيع أي سوري عاقل منع نفسه من تخيّله، وهو الذي عاش أو شاهد خلال السنوات الماضية، كيف تكون الحياة، في جميع مناطق سيطرة الفصائل الإسلامية والنصف إسلامية والربع إسلامية. في محاولة فهم أفضل لما جرى، ولاستعداد أفضل لما سيجري مستقبلاً، لنعود إلى الوراء قليلاً.
خلال أقل من أسبوعين، سقط نظام عائلة الأسد بعد 54 سنة من حكم استبدادي قهري متوحش، كُتبت عنه عشرات الكتب وملايين المقالات، خلال السنوات الـ 14 الفائتة من عمر الثورة الشعبية السورية. سقوط حُر وصادم جاء بعد سنوات قليلة من مرحلة انتصار مفترض لهذا النظام، أعيد فيها فتح سفارات عربية في دمشق وقنوات تواصل امتدت إلى أوروبا، التي بدأت بعض دولها بإعادة النظر في علاقاتها المقطوعة معه.
بعد سنوات من دعم روسي وإيراني مفتوح، أعلن بشار الأسد عن نفسه بصفته الزعيم الفائز بكل شيء عسكرياً وسياسياً، والمنتصر الرافض لتقديم أي تنازل سياسي للدول العربية التي رغبت جدياً بإعادة تأهيله وفشلت حتى بمنعه عن إغراقها بمخدرات “الكبتاغون”، إلى حين 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
في هذا التاريخ، شنت حركة “حماس” الإسلامية الفلسطينية المدعومة من إيران، وإحدى أضلاع “حلف المقاومة” هجوماً إرهابياً شنيعاً استهدف بشكل رئيسي، مدنيين إسرائيليين في غلاف غزّة، ردت عليه إسرائيل بسلسلة هجمات أكثر عنفاً راح ضحيتها عشرات آلاف المدنيين الأبرياء، محولة غزّة إلى حطام وذكرى مدينة، إلا أن حكومة بنيامين نتنياهو لم تكتف بذلك، وبدأت عملية عسكرية واسعة النطاق ضد ميليشيا “حزب الله” في لبنان وفي سوريا، أنهت فيها وجوده كلياً وكسرت ظهر حلف “المقاومة والممانعة”، بشكل أثلج صدور ملايين السوريين المقهورين المحبطين، والجائعين لعدالة لم تمنحها لهم السماء ولم يعطيهم المجتمع الدولي ولو كسرة يابسة منها.
في خضم ذلك، ودون أي مؤشرات سابقة، انطلقت في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، عملية “ردع العدوان” على يد فصائل معارضة يقودها زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، بدت في بدايتها وكأنها حركة كبرياء تركية للانتقام من بشار الأسد الذي رفض كل محاولات رجب طيب أردوغان للمصالحة، إلا أن الفصائل وتحت أنظار الروس والإيرانيين، سرعان ما وصلت حلب وسيطرت عليها بالكامل وانتقلت منها فوراً إلى حماة وحمص، ومن ثم العاصمة دمشق التي غادرها بشار الأسد وجيشه وأجهزته الأمنية، وكأنها لم تكن يوماً مقرّاً لأحد أكثر أنظمة العالم استبداداً وسطوة، وهذا ما يعزز فكرة وجود صفقة لا يعلم السوريون تفاصيلها، أطرافها دولة وجهات كثيرة، من المؤكد أن بينها إسرائيل وروسيا وأميركا وتركيا، وبالتأكيد “هيئة تحرير الشام”.
بهذه المرحلة الأكثر حساسية في تاريخ سوريا الحديث، نحن أمام حقائق لا بد من الاعتراف بها وفهمها لكي نستطيع الاستعداد لما هو قادم، وأولها أن السوريين ليسوا هم من أسقطوا نظام عائلة الأسد بشكل مباشر، وإن كانوا سبباً في ذلك وحتى لو دفعوا ثمن هذا السقوط ألف ضعف مما يستحق، وإنما كان سقوطه نتيجة أحداث أنتجت تفاهمات وانفكاك في عقدة المصالح الإقليمية والدولية، منها ما يتعلق بحماية إسرائيل وبتر أذرع إيران وقطع طرق إمدادها وقتل أي احتمالية لتكرار ما حدث بـ 7 أكتوبر. ومنها ما يتعلق بحل معضلة اللاجئين السوريين وإعادتهم ووقف تدفقهم إلى دول المنطقة والعالم، وأيضاً هناك ما يتعلق بالرؤية العربية الأمريكية الإسرائيلية المشتركة للشرق الأوسط الجديد، ذو الطابع الاقتصادي والتنموي، وهذه رؤية لا يمكن تطبيقها بسلام، في ظل وجود أنظمة وميليشيات خارج السيطرة ولديها القدرة على افتعال المشاكل الكبيرة.
وثاني الحقائق المهمة والخطيرة أيضاً، أن كل ما ورد في الحقيقة الأولى، لا يتعارض بشكل مباشر مع وجود حكومة دينية فكراً وسلوكاً في سوريا، طالما ستبقى هذه الحكومة ودية السلوك مع محيطها ومشتركة في التفاهمات والرؤى السياسية والاقتصادية العامة، وفي هذا الشأن تحديداً، لا تهتم دول كثيرة -وقد لا ترضى أيضاً- بتأسيس ديمقراطية صلبة في سوريا تمنح السوريين حرية حقيقية سقفها أعلى من سقوف “الحرية العربية الإسلامية” في المنطقة، وحتماً سنشاهد في المستقبل القريب دولاً إقليمية تسعى بقواها الناعمة والخشنة وبجميع العملات العربية والأجنبية، لاستكمال وتوسيع مقاولاتها في شراء واحتكار ولاءات السوريين والسوريات في مختلف ميادين السلطة، وأهمها “السلطة الخامسة” في الإعلام والصحافة، بهدف الحصول على نفوذ يمكنها من التحكم بالرأي العام السوري.
أسئلة كثيرة ثقيلة وقعت فوق رؤوس السوريين حالياً، بعد هبوط مستويات الدوبامين والأدرينالين وزوال ثمالة الفرح الصادم بسقوط حكم الأسد: كيف ستكون “سوريا الحرّة” في المستقبل؟ هل نحن متفقون أصلاً على مفاهيم الديمقراطية والحرية؟ هل ستكون بلادنا ديمقراطية علمانية تعددية أم “ديمقراطية على سنة الله ورسوله”؟ هل ستكون الحريات الفردية والفكرية والدينية كاملة غير منقوصة ومضبوطة بالقانون، أم “حرية تحت ظل الشريعة” ووفق “ضوابط الدين الحنيف” وتحت رعاية “مجلس الشورى”، كما جرى ويجري في إدلب وبقية المناطق الخارجة عن سيطرة النظام منذ سنوات؟ وكيف سيكون وضع الأقليات القومية والدينية في دولتنا الجديدة؟ وبماذا يفكر الزعيم الجديد وهل سيبقى زعيماً؟ هل التفاؤل بأبو محمد الجولاني له مبررات منطقية؟
بعد سقوط نظام الديكتاتور صدام حسين عام 2003، وصلت المعارضة الإسلامية الشيعية إلى الحكم، ووعدت بإنهاء “البعث” وإرثه الاستبدادي الدموي، ومحو سنواته الصعبة من ذاكرة العراقيين، فوضعت دستوراً جميلاً يضاهي دساتير أعظم دول العالم، ولاحقاً عيّنت في رئاسة الحكومة شخصيات عراقية تحمل جنسيات وعقليات وخبرات أوروبية مثل العراقي البريطاني حيدر العبادي والعراقي الفرنسي عادل عبد المهدي، ورغم ذلك ما زال الشعب العراقي يرزح تحت سطوة سلطة ميليشياتية غير وطنية، تتحكم بالدولة وتسرق مواردها وتقمع الناس، وتقتل وتختطف وتخوّن كل معارض.
هل ستفعل المعارضة الإسلامية السنّية ممثلة بـ”هيئة تحرير الشام” و”الإخوان المسلمين” في سوريا الشيء نفسه؟ الجواب هو “نعم” و”بالتأكيد” ليس لأننا نعلم الغيب، بل لأننا نعلم الماضي القريب ونعرف التاريخ البعيد، ولا مجال للمواربة هنا ولا لتضيع الوقت ولا لتجريب المجرّب، فإزالة أنظمة مستبدة وسلطات ميليشياتية تنتمي لـ”الإسلام السياسي” من الحكم، قد يكّلفنا عقوداً جديدة من القهر.. الجواب هو “نعم” و”بالتأكيد” ولا يمكن أن نجلس في انتظار ثبوت العكس.