جسر – صحافة
حمل الخطاب الأخير زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، وعوداً كبرى بتنمية اقتصادية واسعة و”بيئة استثمارية كبيرة” ستقود تنظيمه وأنصاره الى تحرير دمشق. مَن يسمع الخطاب يخال له أن الرجل أطلق وعوده خلال افتتاح مدينة صناعية كبرى أو سدٍ عالٍ يمد مناطق سيطرة “الهيئة” بالكهرباء دون انقطاع. إلا أن الجولاني أدلى بهذه التصريحات خلال افتتاح طريق “باب الهوى – حلب”.
ادعى الجولاني بأن المناطق الخاضعة لسيطرته “تسير بخطة استراتيجية منذ أكثر من ثلاث سنوات في البناء والتقدم، والتنمية الاقتصادية وتنمية المحرر فيها جوانب كثيرة، وما ترونه اليوم من الطريق هو ثمرة أولى ومبدئية، وليست الأكبر بل هي متوسطة الحجم لما ترونه في المستقبل”.
وفي هذا التصريح، ادعاءان، أولهما أن السنوات الماضية شهدت تقدماً غير مرئي لعموم الناس، وأن السياسات السابقة لم تكن في سياق ردود الأفعال على الحرب والتطورات على الأرض، بل جاءت ضمن خطوات مدروسة في اطار خطة استراتيجية لم يُعلن عنها. الادعاء الثاني هو أن الطريق مشروع متوسط الحجم مقارنة بما سيأتي بعده، من بناء مشافٍ وجامعات وتوفير كهرباء وجذب استثمارات. وهذا غير ممكن عملياً نظراً للضربات الجوية المتواصلة لروسيا والنظام السوري، علاوة على الأعمال العسكرية للتحالف الدولي ضد “حراس الدين”. يُضاف الى ذلك عدم وجود اعتراف دولي بالجولاني وجماعته رغم محاولاته إعادة انتاج صورته.
لكن لخطاب الجولاني فوائد آنية على ارتباط بدوره الوظيفي في الشمال السوري، إذ بماذا يُواجه قائد جهادي “مُتقاعد” أتباعه وكوادره في ظل غياب الأعمال العسكرية؟ الرجل مُتهم بالتواطؤ مع أنقرة وحلفائها الغربيين ضد رفاقه السابقين في “حراس الدين” وتنظيمات مماثلة. وكلما ازداد استهداف مناطق الشمال بالغارات الروسية والاغتيالات بحق قادة الحراس، يزداد زعيم الهيئة احراجاً. لهذا بات عليه أن يتبنى منطق “السلطة الوطنية الفلسطينية” بعد فشل عملية أوسلو. يُنسق أمنياً مع الجانب التركي، وفي المقابل يعد أنصاره بنمو اقتصادي ومستقبل واعد، ويُردد شعارات الزحف نحو دمشق من خلال مشاريع جديدة وبناء المؤسسات بشكل فاعل.
والواقع أن موارد “تحرير الشام”، وأغلبها من المعابر الحدودية كباب الهوى، محدودة نسبة لحاجة المنطقة. حتى لو أخذنا بتقدير القيادي السابق بالهيئة أبو العبد أشداء قبل سنتين ونصف، 130 مليون دولار شهرياً، وهو مرتفع، من الصعب تلبية الحاجات العسكرية والرواتب ومصاريف الحكومة المدنية، علاوة على بناء المشاريع الموعودة. التنمية وبناء المؤسسات لا يحصلان في ظل الحرب.
والواقع أن الغارات الروسية المتواصلة واستهداف “الحزب الإسلامي التركستاني” و”حراس الدين” والقوى الاثنية الأخرى المتواجدة بأعداد أقل في الشمال، لن تُؤدي سوى الى المزيد من الاحراج وربما الانشقاقات في صفوف “هيئة تحرير الشام”. ليست الهيئة قادرة على تنفيذ عمل عسكري ضد النظام، ولا يُمكنها تبريره، ناهيك عن عدم اظهارها أي قدرة لوجستية على التقدم باتجاه مواقع جديدة.
وهنا من المفيد تفحص الخطابات “الاقتصادية” للجولاني بصفتها عملاً ممهداً لتنسيق أمني وتنازلات مقابل الاستمرار في الدور الوظيفي عينه: التنسيق الأمني وإدارة المنطقة بأقل صداع ممكن لتركيا. ولا مكان في هذا الواقع للنمو ولا الزحف باتجاه دمشق ببناء المؤسسات وإنجاز مشاريع الطرق، إذ ان هذه لغة انتفت ليس في سوريا فحسب، بل على مساحة المشرق بأسره.