رأي- عبدالناصر العايد
للمرة الاولى منذ تدخلها في الصراع السوري العام 2015، فشلت روسيا في تحقيق الأهداف العسكرية والسياسية لمعركة أطلقتها، أو هذا ما يبدو عليه الأمر في الحملة العسكرية شمالي حماة وجنوبي ادلب. وتكشف قراءة متأنية لمجريات الحملة وظروفها، عن ميل متعاظم نحو الاستقرار الاستراتيجي لموازين القوة في ميدان الصراع السوري بأكمله، وفي مستوياته المختلفة، لا على الصعيد العسكري فقط. وهو الأمر الذي يُعتقد أنه سيتكرس في جولة أستانة 13 مطلع آب/أغسطس، على شكل اتفاق سياسي يستند إلى آخر النتائج الميدانية العسكرية.
نستطيع أن نتحدث بالفعل عن أسباب عسكرية سمحت بكسر موجة النجاحات العسكرية الروسية. منذ معركة اقتحام حلب ودروسها المهمة، تتطور أساليب وتكتيكات الفصائل لاستيعاب القوة النارية الهائلة التي يطلقها الطيران الروسي. ويأتي التطور في سياق استراتيجي يسمى عسكرياً بـ”الحرب اللامتماثلة”، والذي يتلخص في حرمان الخصم من احراز انتصار عسكري واضح، واجباره على عقد اتفاق سياسي.
وعلى صعيد التكتيكات التي تندرج في اطار الحرب اللامتماثلة يمكننا الحديث عن “مفارز النخبة” التي طورتها فصائل مثل “جيش العزة” و”هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية”، التي أوجعت خصومها بالقتال داخل وخلف خطوطهم. وهو التكتيك الذي يحول دون التعرض للقوة النارية الاستراتيجية للطيران الروسي أو مدفعية النظام. كما يمكننا أن نتحدث عن استخدام أسلوب الانتشار الواسع لتفادي الإفناء بالنيران المركزة، وتجنب فخ “التطويق الاستراتيجي” الذي وقعت فيه فصائل حلب إبان المعارك الشرسة لفك الحصار عنها، عندما منحتها روسيا معبراً صغيراً بالقرب من مدرسة المدفعية، فاحتشد مقاتلو الفصائل هناك بانكشاف واضح، قبل أن تطبق عليهم النيران من كافة الاتجاهات ومن الأعلى، الامر الذي شكل نوعاً من الإبادة التي لا تزال تلك الفصائل تعاني من اثارها البشرية والمعنوية.
كما استخدمت وسائط بدائية، مضافٌ إليها تقنيات عالية، في أحد مبادئ الحرب اللامتماثلة ايضاً، مثل الطائرات الخشبية المسيرة التي استخدمت بفعالية للاستطلاع، وإلقاء قنابل صغيرة في بعض المواقع، أحدثت بلبلة وحالة من التشتت، أدّت الى فرار مجموعات كاملة. كما نتحدث عن استخدام الدراجات النارية بكثافة، بحيث وصلت مفارز الاقتحام إلى أهدافها بسرعة كبيرة وبتوزع كبير على مسرح العمليات، ما جعل قوات النظام تطلق الصواريخ المضادة للدروع المُكلِفة لاصطياد عنصر أو اثنين.
كما شكل توحد الفصائل بشبه قيادة عامة واحدة، ونشر المعارك على مساحة واسعة نسبياً، عامل مناورة بالقوى، أربك الخطة الروسيّة التقليدية، التي تقوم من حيث المبدأ على تجميد الجبهات الاستراتيجية والتركيز على اهداف تكتيكية يتم تحطيمها، والنفاذ منها إلى العمق ودفعه إلى الانهيار دون قتال، على نحو ما حدث في معركتي الغوطة ودرعا.
وبطبيعة الحال نستطيع أن نتحدث عن الروح المعنوية وتفاوتها لدى الطرفين، فجنود النظام، سواء منهم القدامى، أو من مقاتلي “المصالحات”، يعتقدون أن الحرب انتهت، وقد دخلوا في مرحلة الاسترخاء. وهم لا يتفهمون دوافع قادتهم لاقتحام ادلب وما حولها، التي يعرف الجميع مدى صعوبتها، خاصة بعد مقتل نحو 600 منهم في تلك المعارك التي لا جدوى منها ولا أمل بتحقيق هدفها. أما مقاتلو المعارضة، سواء المحليون منهم أو من لجأوا إليها من مختلف مناطق سوريا، فهم لا يستطيعون تخيّل الهزيمة أو الانسحاب هنا كما حدث سابقاً. في جميع الحالات والمعارك كان ثمّة “ادلب” ينتقلون إليها، فإلى أين ينسحبون اليوم؟
الأمر عينه أيضاً يحكم الجانب التركي الذي تتمركز نقاط المراقبة الـ12 التابعة له في مناطق سيطرة الفصائل، والتي يتوجب عليها الانسحاب أو خوض مواجهة مكلفة وغير محسوبة مع قوات نظام الأسد وروسيا وإيران، في حال هزمت تلك الفصائل.
وقد فضلت انقرة توفير دعم لوجستي كبير لمقاتلي المعارضة على انتظار نتائج قتالهم مع النظام، وربما بموافقة ضمنية أو فعليّة من واشنطن. وبدا واضحاً أن الفصائل تتمتع ببحبوحة من الذخائر والأسلحة التقليدية، كما أنها لا تعاني من مشاكل في امدادات الوقود أو الطعام أو النفقات الأخرى من رواتب وغيرها.
ليس بمستطاع أنقرة التخلي عن جيب ادلب، فهي ورقتها الاستراتيجية للتفاوض مع روسيا والنظام حول شرق الفرات. في أي تسوية محتملة بين روسيا والولايات المتحدة حول سوريا، ستصبح تلك المنطقة تحت سيطرتهما، وستستخدم الورقة الكرديّة للضغط على أنقرة وانتزاع التنازلات منها، ناهيك عن خسارتها لأوراق القوة المتمثلة بالسيطرة على فصائل تلك المنطقة، والتي تتيح لها نفوذاً أوسع في الملف السوري وفي الملفات الإقليمية الأخرى، خاصة تلك المتعلقة بإيران. وإيران ليس بمستطاعها في المدى المنظور تعقيد علاقتها مع تركيا، خاصة في ظل ابتعاد انقرة المتصاعد عن واشنطن، على خلفيات دعم الأخيرة لذراع حزب “العمال الكردستاني” في سوريا. ولأن ادلب قد أصبحت خارج حسابات طهران الضاغطة بعد تهجير سكان الفوعة وكفريا، فإن خيار تركها لتركيا، مقابل الإقرار لإيران بالنفوذ في مناطق من حلب، وعدم فتح معارك هناك، خصوصاً باتجاه بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين، هو توازن مرضٍ لطهران على المدى المتوسط، ريثما ينجلي غبار صراعها مع تل ابيب وواشنطن حول حضورها السوري، والذي يبدو أن الروس يرغبون في تقليصه أيضاً.
موسكو بدورها، ورغم أنها تقود المعركة، ليست راغبة فعلياً بالقضاء على “جيب ادلب” الجهادي، بوتين يريد فحسب أن تخضع “هيئة تحرير الشام” لنفوذه الأمني، وأن تكون ورقة استراتيجية يمكنه أن يفاوض الغرب عليها، وقد لوح مؤخراً من إيطاليا بفكرة انتقال الجهاديين من ادلب إلى ليبيا، أي إلى حدود أوروبا. وفي الواقع لا تشغله فكرة اغلاق الملف أو حسم الحرب، طالما أنه لا يخسر فيها شيئا مهما طال أمدها.
وحده نظام الأسد، يريد احراز تقدم ما في ملف ادلب، قبل طرح التصور الأولي لانتخابات 2021، التي تعدّ أهم استحقاق سيواجهه في المرحلة المقبلة. وجود جيب ادلب المناوئ بشدّة، خارج أي نفوذ أو سيطرة، سيعقد حساباته أكثر بكثير مما يتهدده في مناطق سيطرة الأكراد في الشمال الشرقي، التي يعمل بدأب على اختراقها، ويحظى بتأييد قطاعات لا بأس فيها هناك. لكن عدم حماسة الروس بشكل كاف لتحقيق هذا المسعى، وتريث ايران التي ترزح تحت الضغط الاميركي، سيمنع النظام من الوصول إلى هدفه، وسيرغمه على البحث في خيارات المناورة السياسية، وانتظار اللحظة المناسبة، لحسم هذا الملف.
اقتراب واشنطن وانقرة من عقد اتفاق لمنطقة آمنة شرق الفرات، سيفرض استقراراً نسبياً طويل الأمد هناك، وتدخل على أساسه “قوات سوريا الديموقراطية” إلى حلبة التفاوض السياسي رسمياً. وسيكون على جولة استانة الـ13، وضع أسس تفاهم سياسي في ادلب وما حولها. وهو ما سيقود إلى توقف القتال فيها أيضاً إلى مدى طويل نسبياً. وسيتحول الصراع السوري فعلياً إلى تدافع سياسي بين القوى المسيطرة والنافذة في إطار استراتيجي جديد، ميدانه التفاوض حول الدستور، وهدفه انتخابات 2021، وادواته اقتصادية، وستصمت المدافع إلى حين. إلى حين فقط.
المدن ٢٠ تمو/يوليو ٢٠١٩