جسر: متابعات:
عاد ثالوث الاتهامات الروسية إلى الواجهة مجدداً لأول مرة منذ لحظة صمت المدافع في الخامس من آذار (مارس) الماضي. فبين تصريحات وزارتي الدفاع والخارجية الروسية عادت أسطوانة “نقل مجموعات متشددة عبوات لأسلحة كيميائية، تحضيراً لاستخدامها في هجوم” و “صد الدفاعات الجوية الروسية هجوما جديدا لطائرات من دون طيار استهدف قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية غرب البلاد. واتهام “جبهة النصرة بخرق اتفاق وقف إطلاق النار وشنها لهجومين على قوات النظام”.
وتعتبر تلك الاتهامات وتفرعاتها حجج روسيا المستمرة للبدء بعمليات عسكرية منذ توقيع مناطق خفض التصعيد في أيار (مايو) 2017.
ويتركز اتهام موسكو للمعارضة باستخدام الكيميائي بربطه بتحالف جبهة النصرة مع الدفاع المدني للتحضير للهجوم ونقل مواده، مع بعضهما أو منفصلين، بهدف شيطنة فرق الخوذ البيضاء، واتهامها بفبركة مجزرة الكيميائي في الغوطة عام 2018 والاستشهاد بشهادات انتزعت تحت التهديد لمن بقي من أطباء الغوطة الشرقية بعد عملية التهجير. ولم يقتصر التهديد على قتل الأطباء أو اعتقالهم بل هددتهم مخابرات النظام السوري بتصفية والديهم وزوجاتهم وأبنائهم أمام أعينهم.
وكان آخر اتهام للمعارضة بـ”مسرحية للكيميائي” بدأ على لسان الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019 وترافق الاتهام اليومي مع بدء عمليات الهجوم الأخير على إدلب منتصف كانون الأول (ديسمبر) 2019 وانتهى باتهام وزارة الدفاع الروسية على لسان قائد مركز المصالحة الروسي، اللواء يوري بورينكوف حول تحضير قادة التنظيم الإرهابي “هيئة تحرير الشام” (المحظورة في روسيا) مع أعضاء منظمة “الخوذ البيضاء” لتنظيم عمليات محاكاة استخدام مواد سامة وتدمير البنية التحتية في المناطق الجنوبية من منطقة خفض التصعيد في إدلب. وأوضح أن الهدف من هذا العمل هو “إعداد صور وتسجيلات مصورة لنشرها في وسائل الإعلام العربية والغربية، مع اتهام القوات السورية باستخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين، والقصف العشوائي. وبعد ثلاثة أشهر على ذلك تلك التهديدات، سيطرت قوات النظام مدعومة بالميليشيات الإيرانية براً، والقاذفات الروسية جواً.
ويبقى تجدد الهجوم بطائرات بدون طيار أبرز المستجدات، حيث توقف استهداف مطار حميميم العسكري قبيل انتهاء عملية السيطرة على ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، فسجل هجوم شنته ست طائرات مسيرة في 12 أب (أغسطس) وبعدها بعشرة أيام سقطت مدينة خان شيخون وأصبحت المنطقة التي انطلقت منها الطائرات المسيرة مرارا، غربي بلدة كنصفرة، تحت مرمى نيران قوات النظام. ورغم عملية الشتاء العسكرية التي أفضت إلى السيطرة على طريق حلب – دمشق الدولي M5 وكامل المنطقة الواقعة شرقه وعمق يصل إلى 10 كم غربه في بعض المناطق، فقد توقفت الهجمات على مطار حميميم حتى كادت تنسى مع انقضاء احد عشر شهرا على توقفها.
وما استحضار الطائرات الموجهة (درون) اليوم، وإعلان إسقاط طائرتين مسيرتين وتكرار عملية إسقاطها بواسطة الدفاعات الجوية الروسية على بعد 5 كم شرق قاعدة حميميم إلا تذكيرا بسيناريو ما بعد إسقاطها وما يتبعه من خسائر بشرية ومادية وموجات نزوح لا تتوقف.
وتبقى مسالة وجود “جبهة النصرة” (الاسم المعتمد لدى المسؤولين الروس) أحد أبرز الحجج الروسية لبدء عملية قضم جديد، ولا تتوقف الدبلوماسية الروسية عن التذكير بأن التنظيم مصنف على لوائح الإرهاب.
وحملت وزارة الدفاع الروسية هيئة تحرير الشام مسؤوليات خرق اتفاق موسكو، الأسبوع الفائت. وأشار رئيس المركز الروسي للمصالحة بين الأطراف المتحاربة في سوريا، إلى أن عمليات قصف استهدفت بلدات في محافظات اللاذقية وإدلب وحلب، واستدرك “لم نسجل أي انتهاكات لوقف إطلاق النار من قبل الفصائل المسلحة الموالية لتركيا”.
التطور الخطير في إدلب، هو فشل الفصائل المنقسمة حول تسيير الدوريات الروسية التركية المشتركة بحماية الطريق وتأمينه من هجوم محتمل قد يشنه ممانعو الاتفاق والذين تحالفوا مؤخرا في غرفة عمليات “فاثبتوا” في حزيران (يونيو) الماضي.
وفجرت سيارة مفخخة بالدورية المشتركة بين بلدة مصيبين ومدينة أريحا على طريق الترانزيت M4 وأدت إلى جرح ثلاثة عناصر من الشرطة العسكرية الروسية، جروحهم خفيفة حسب الأشرطة المصورة التي بثتها وسائل الإعلام الروسية.
وتابعت الدورية رقم 21 المشتركة خط سيرها رغم التفجير الحاصل وأنهت خط سيرها وصولا إلى قرية عين حور أقصى شرق محافظة اللاذقية، لتسجل أول إتمام للدوريات على الطريق منذ تسييرها في 15 آذار (مارس) الماضي، بعد توقيع اتفاق موسكو بين الرئيسين التركي والروسي بعشرة أيام.
وأعلن مركز حميميم التابع لوزارة الدفاع الروسية أن الجنود الروس أصيبوا في “انفجار عبوة ناسفة زرعها مسلحون أثناء مرور دورية روسية-تركية مشتركة في سوريا”. وأشار المركز في نفس البيان إلى أن “أفراد طاقم المدرعة التركية أصيبوا أيضاً جراء تفجير عبوة ناسفة مزروعة خلال مرور الدورية المشتركة”.
فيما وصفت وزارة الدفاع التركية الاستهداف أنه حصل “بسيارة مفخخة، بهدف عرقلة الجهود المبذولة لضمان السلام في إدلب. وأدى إلى تضرر جزئي في العربتين العسكريتين” وتجنبت الوزارة ذكر مزيد من التفاصيل.
اللافت، أن الفيديو يظهر خروج سيارة (نوع هونداي، بيضاء اللون) من يمين الطريق بشكل مسرع، وتوقفت على طرف الطريق ولم تتجاوز أو تطارد المدرعة الروسية، وانفجرت بالقرب من المدرعة الروسية، وهي ما زالت عند نقطة تلاقي الطريقين الفرعي والرئيسي، دون إمكانية تحديد ما إذا كانت مسيرة بشكل آلي أو أن انتحاريا يقودها، وسط تحفظ كبير من الجانبين الروسي والتركي.
والمستغرب هو الحديث عن سيارة مركونة أو أن التفجير حدث بعبوة ناسفة. فالطريق يخضع لعملية تمشيط مستمرة من قبل قوات الجيش التركي ومركزية “فيلق الشام” المرافقة له، ما يرجح فرضية تسلل انتحاري على أية فرضية أخرى، حتى تلك القائلة بسيارة متحكم بها عن بعد. فالقوات الروسية تقوم بالتشويش على الموجات اللاسلكية وهو ما يصعب إمكانية التحكم باي آلية لحظة مرور الدورية المشتركة.
وأعلنت “كتائب خطاب الشيشاني” مسؤوليتها عن الهجوم، وذكرت على قناتها على تطبيق “تلغرام” حديثاً “الروس وأذنابهم لا يفهمون إلا لغة النسف والقصف، هذه جاءت بمثابة تحذير والقادم أدهى وأمرّ”. واقتصر الفيديو على لوغو جديد يظهر لأول مرة، كحال الكتائب، والتي لم تتجرأ على الإعلان عن نفسها بوضوح بسبب حملة المطاردة التي تقوم بها هيئة “تحرير الشام” للفصائل الموالية للقاعدة أو الرافضة لتطبيق اتفاق موسكو. وتعتبر المنطقة التي حصل فيها التفجير، أساسا منطقة نفوذ لغرفة عمليات فاثبتوا أو للجناح المقرب منهم من تنظيم “أنصار التوحيد” والمتمركز في حرش مصيبين على الجانب المقابل لمكان التفجير.
رد الطيران الروسي بقصف جوي لأول مرة منذ دخول اتفاق موسكو حيز التنفيذ، وقصف عدة مناطق بجبل الزاوية، وركز قصفه أيضا على منطقة تلة الكابينة في ريف اللاذقية الشرقي. ووجد النظام السوري استهداف الدورية الروسية فرصة سانحة، لبدء قصف كامل منطقة جبل الزاوية ومدينة أريحا بصواريخ الراجمات والمدفعية. ولم يقتصر تسخين الجبهة على ما تبقى من منطقة خفض التصعيد الرابعة، بل تجاوزه ليصل منطقة درع الفرات لأول مرة منذ السيطرة التركية وفصائل المعارضة على ريف حلب الشمالي عقب طرد تنظيم “الدولة الإسلامية” في عملية “درع الفرات” في آذار (مارس) 2017. وهو ما يعتبر تطورا خطيرا في سياق التصعيد في الشمال السوري، وهو بمثابة رسالة روسية لأنقرة يمكن فهمها على أكثر من صعيد، محلي وإقليمي، يمتد إلى ليبيا ربما. لكنه محليا يعني أن المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة وتقع تحت النفوذ التركي ليست بمنأى عن أهداف العمليات العسكرية التي تهدف إلى “استعادة الحكومة السورية السيطرة على كامل التراب السوري” كما أعلن الروس في غير مرة.
وستجد روسيا في استهداف الدورية ذريعة للبدء بعملية قضم تطال ما تبقى من ريف معرة النعمان الغربي، ومنطقة أريحا الإدارية وضمنها جبل الزاوية إضافة إلى المنطقة الجنوبية من ريف جسر الشغور. وتبلغ مساحة المنطقة جنوب طريق M4 نحو 400كم2 في حال قررت روسيا الاكتفاء بعملية صغيرة تتجنب من خلالها إغضاب تركيا التي تبذل جهودا كبيرة في الدوريات المشتركة، ثمنها الرئيس بوتين شخصيا قبل أيام في اتصال مع الرئيس اردوغان.
نهاية، وفر التفجير الذي استهدف الدورية المشتركة فرصة لروسيا ما كانت تجدها لو بحث عنها، لبدء عمل عسكري تضاف إلى حججها الثلاث أعلاه، ومن الواضح أن مغامرات الفصائل القاعدية في حال استمرارها على ذات المنوال سيؤدي بالتأكيد إلى خسارة رقعة جغرافية جديدة، وعلى المدى الطويل فإنها بكل تأكيد ستؤدي إلى خسارة إدلب كاملة.
القدس العربي: ١٨ تموز / يونيو ٢٠٢٠