جسر: ثقافة:
تصوّر القدماء أن الحكّام من طبيعة غير طبيعة البشر، فالحاكم إله على الأرض أو ابن إله؛ ومن هنا جاءت سيطرته السامية لأنها إرادة إلهية عليا، وشيئا فشيئا اعتبروا أن الإله هو من يختار الحاكم اختيارا مباشرا ليمارس السلطة باسمه على الأرض، حيث قامت السلطة قديما على أساس إلهي والحاكم يستمد سلطته من الإله.
لقد اتجه التفكير قديما أن السلطة قامت على أساس إلهي، وطالما أن مصدر السلطة هو الله فهو حر الاختيار لمن يشاء في منحها وممارستها، وحيث أن هذا الحاكم استمد سلطته من مصدر علوي فهو يسمو فوق الطبيعة البشرية، وبالتالي تسمو إرادته على إرادة المحكومين فهو منفذ للمشيئة الإلهية. وإن لم يكن الحاكم مختارا من الإله نفسه فقد يكون الإله نفسه، فقد اعتبر الملوك والأباطرة في الهند والصين وبلاد فارس ومصر كذلك، وانتقلت هذه الفكرة إلى الرومان أيضا.
في مصر القديمة نجد أن نظام الحكم فيها ملكي ولم تكن الإلوهية رمزا فقط، وبذلك فقد أصبح الملك هو الإله حورس (الإله الصقر) أو رع (إله الشمس)، وبالتالي يصبح الملك حورس رع أو إبن الإله رع، أو أن يُذكر في النصوص أن الإله رع قد نصّب ابنه ملكا على مصر، ولهذا فإننا نجد في نصوص المملكة القديمة “ابن رع”؛ فهو سليل إله الشمس من الأم الأرضية، ومن أجل أن يضمن الإله رع الحكم يتردد على الأرض، ويبحث عن امرأة لاستمرار نسله متمثلاً بالملك الحي، وينقل له ماء الحياة ليصبح فيما بعد الملك الوريث. وحيث أن الملك هو المؤلّه طيلة حياته فإنه يصبح إلها بعد مماته أيضا، ولهذا فإنه يستحق مناسك العبادة والتكريم الواجبة للملك المتوفى. بعد ذلك يصعد إلى السماء ليتحد بقرص الشمس، ويندمج مع أبيه “رع”، وبالتالي فإن شخصية الملك إلهية مُقدّسة تتمتع بالعلم الإلهي، فلا تخفى عليه خافية، ويحيط بكل المعارف، ومشيئة الملك وإرادته هي القانون الأساسي، وليس على المصريين إلا الخضوع له، والتسليم لأمره ونهيه، لذلك كان قضاة مصر القديمة يحكمون حسب العادات التي توافق الإرادة الملكية، وبما أن الملك هو الكاهن الأكبر فهو إذا صلة الوصل بين الناس والآلهة، وهو المشرِّع والقاضي والمرجع الأعلى والغاية الأسمى.
أما في بلاد الرافدين فإن النظام هبط من السماء، والملك هو حاكم المدينة، وهو الكاهن الأعظم ونائب الآلهة ومندوبها. فملك بابل مثلا هو الوكيل القانوني لإله المدينة، ولهذا فقد كانت الضرائب تُجبى باسم الإله، ونجد الملك في الاحتفالات يرتدي زي الكاهن في إشارة لاتحاد الدين بالدولة، والخروج على طاعة الملك نتيجته القتل لا محالة، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحكم يقوم على الطاعة والخضوع للسلطة، ونجد ذلك أيضا حتى في النصوص الأدبية الرافدية: “اسمع كلمة أمك كما تسمع كلمة إلهك، واسمع كلمة أخيك الأكبر كما تسمع كلمة أبيك”. ويورد الدكتور إمام الإمام في كتابه “الطاغية” نصا آخر ينم عن حالة الفوضى فيما لو كانت الدولة بلا ملك، ويدل على أن الملك فوق الجميع، فهو رأس الهرم: “أنظر، الجنود بلا ملك كغنم لا راع، والعمال بلا مراقب كالمياه بلا مفتش ري، والفلاحون بلا مشرف كحقل بلا حرث”، وكما وجدنا عند المصريين من سلطة عليا نجدها أيضا عند الرافديين، فبما أنه ممثل الآلهة أو أنه ينوب عنها فهو واضع العدل بين الناس يتصرف بلا محاباة، ونصير الأرامل واليتامى، والمدافع عن الضعيف أمام القوي، فهو صاحب الاعتبارات الأخلاقية وصاحب رضا الآلهة وبركاتها.
أما في بلاد فارس فقد اتخذ تأليه الحاكم منحى آخر، إذ أطلق عليه الفرس لقب “ملك الملوك”، إلا أن منح السلطة المطلقة له أعطاه حق القتل كيفما يشاء من غير محاكمة أو محاسبة، كما يحق له أن يعطي حق السلطة أيضا لأمه أو كبرى زوجاته، ولهذا كان يحكم تبعا لأهوائه، وبذلك أصبح الرأي الآخر مصادرا كليا لدرجة أن من يُقتل ابنه برمية سهم من الملك أمام الملأ، لا يسعه إلا أن يثني على الملك في دقة تصويبه ومهاراته في الرماية.
لقد كانت علاقة السلطة بالدين، ولا زالت، علاقة وطيدة تقوم على أساس المصلحة فيما بينهما، وﻻ نعني أن الدين شرط التسلط، وإنما هو استخدام السلطة للدين أو ما نسميه “الحكم الثيوقراطي”؛ وهو مصطلح مؤلف من مقطعين يونانيين Theos ويعني إله، و Kratia بمعنى حكم، فهي تعني حرفيا “حكم الله” أو “الحكم لله”، إما مباشرة أو من خلال رجال الدين، ومن الدول التي ينطبق عليها وصف “الحكم الثيوقراطي” على هذا النحو الدولة اليهودية من موسى إلى القضاة، أو نظام وﻻية الفقيه في إيران منذ الخميني وحتى اليوم، ومن أمثلة حكم رجال الدين في أوروبا الراهب الدومينيكاني “سافونارولا” الذي حكم فلورنسا في إيطاليا منذ عام 1494 حتى إعدامه حرقا في عام 1498، واشتهر كمصلح ديني وواعظ مناوئ لأفكار عصر النهضة وحارق للكتب ومحطم لما اعتبره فنا غير أخلاقي.