جسر – صحافة
تب جورج أورويل يفضح كذبة الحروب: “لقد رأيت معارك كبيرة يُكتب عنها، عندما لم يكن هناك معارك. وصمتاً كبيراً عندما كان يُقتل مئات الرجال. لقد رأيت القوّات التي كانت تحارب بشجاعة تُدان بالجبن والخيانة، وآخرين لم يحاربوا قطّ يَحْيَون كالأبطال في معارك وهميّة”. مقولةٌ تلخص حقيقة النظام السوري الذي نجح في إيجاد مجتمع تعسّفي رقابي توتاليتاري، سلب كلّ الحريّات وألغى الفرديّة، وأعاد تحديد المفردات والقيم، كما ابتكر لغة المتناقضات وفنّ تحريف الحقائق، ومنع الحبّ وكرهَ الجمال، وزاد من بناء السجون على حساب المدارس ودور النشر والسينما والمسارح. ولذا فإنّ كثيرين من سوريّي الداخل اليوم، وبعد ليّ عنق الثورة السورية، بُرمجوا على أن يكون حضور السلطة حضوراً مطلقاً في جميع الخلايا الأخلاقية والنفسية للفرد، حتى باتوا يجهلون ضرورة التفكير، ومتعة الرفض، ومقاومة الانسياق وراء الملقِّن، في سبيل البحث عن الذّات، وبالضرورة التسليم أن لا خبز يمكن أن يعطيه المستبدّ من دون كرامة. على هذا، دَهمَ السوريين أخيراً عصرُ الكراهية والجهل، برعايةٍ مباشرةٍ من “الأخ الأكبر” الذي ارتقى إلى مرتبة النواة المقدّسة لنظامٍ قائم على هياكل متينة من آلات الرعب والعنف، فنصب عرشَه كشوكةٍ لئيمةٍ في حلق البلاد، عبر تسويق أيديولوجيات الخضوع والطاعة، وسط التلويح بورقة الحروب لتشتيت تركيز المواطنين عن القضايا المفصلية، وإغراقهم في هموم الروتين اليومي والصراعات الجانبية، فتقتصر مهامهم على أداء الأدوار البدائية، من أكل وشرب وتكاثر. هكذا ابتلع النظامُ الفاشيّ كلَّ “سوري ضّال”، لا بقتله، إنما بجعله خروفاً طيّعاً في قطيع كبير.
سورية حالياً، وحسب تصنيف أممي، تعتبر “الكارثة الإنسانية الأكبر” منذ الحرب العالمية الثانية، بدلالة تصدّرها قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم
في زمنٍ مضى، رأى مراقبون أنّ سورية الاستقلالية دولةٌ محظوظة بإمكاناتها الهائلة، وبموقعها الجغرافي الاستراتيجي وتقاليدها التجارية العريقة، وأكدوا أنّ مجموع هذه المميزات سيجعل منها دولة ثرية ومتطوّرة بالاعتماد على مقوماتها الفريدة، ومن دون الحاجة إلى أيّ مساعدة خارجية. بطبيعة الحال، “كذب المراقبون ولو صدقوا”، فسورية حالياً، وحسب تصنيف أممي، تعتبر “الكارثة الإنسانية الأكبر” منذ الحرب العالمية الثانية، بدلالة تصدّرها قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. وبإمكاننا أن نجزم يقيناً أنّ الفساد ونهب المال العام أدّى إلى حصول عجزٍ ضخم في السياسات المالية، انعكس في ارتفاع الديْن العام، الخارجي والداخلي، ما يعني عبئاً كبيراً سيخلّفه الواقع الحالي على كاهل الأجيال المستقبلية، فقد ازدادت حصة الدين العام من الناتج من 30% في 2010 إلى 208% في 2019، ونجمت هذه الزيادة، بصورة أساسية، عن الدين الخارجي الذي ارتفع من 7% من الناتج في 2010 إلى 116% في 2019. دعوني أعلّل هذا الواقع الكارثي بشرح بسيط جداً، إذ أشير إلى فيديو سابق لوزير داخلية النظام السوري، محمد الشعار، انتشر عبر مواقع التواصل، يقوم بجولةٍ قيل إنّها فجائية لفرع المرور، ويسأل أحد الموظفين عن رسْم المعاملة، فيجيب أنها 550 ليرة فقط، ثم يسأل أحد المراجعين كم يأخذ منكم الموظف فقيل له 600 ليرة. إثر ذلك، يأمر الوزير بعمل ضبطٍ بحقّ “الموظف الفاسد المتآمر على اقتصاد البلاد”، متغاضياً عن ملايين أمراء الحرب ومافيات الرعب التي تعتاش على الدم السوري.
عدد الأثرياء في سورية عام 1963 كان بحدود 55 مليونيراً، وارتفع إلى 2500 مليونير عام 1976
ثمة وقائع تاريخية جمّة مهدت لقيام الديستوبيا السورية الراهنة، أهمها أنه قد وقع في سورية أكثر من عشرين انقلاباً خلال فترة قصيرة (1949 – 1966)، قد يقلّل من شأنها بعضهم، لكنّ الدراسة الدقيقة لأثر هذه الانقلابات على تطوّر البلاد وتحولاتها، تثبت أنّ وثباتٍ ثوريةً كبيرة شبيهة بالزلازل كانت تعصف بالمجتمع السوري ونظامه السياسي. وفي الحقيقة، لم يقمع الجيش عبر الانقلابات التعدّدية الحزبية والعرقية والدينية فقط، لكنّه تدخّل في البنية الطبقية للمجتمع، بقمع البرجوازية المدينية والبرجوزاية الوسطى التي نمت مع الاستقلال، وحكمت فترة، ثم أصبحت المنافس القويّ للأنظمة العسكرية والانقلابات. قُمعت لصالح الطبقة الريفية الفقيرة التي خرج منها أبناء الجيش ومعظم قادة “البعث” وكادراته. والدليل أنّ عدد الأثرياء في سورية عام 1963 كان بحدود 55 مليونيراً، وارتفع إلى 2500 مليونير عام 1976. مع الوقت، أخذ جيشُ “المنتفعين الجدد” يستعمل عقيدة “البعث” في غير مكانها، في اتجاه طبيعي نحو نفسيةٍ يمينيةٍ محافظة، فاستبدل الكلام عن “الصراع الطبقي ضد الرأسمالية” إلى “الدفاع عن مكتسبات الثورة” وعن “ضرورة تحريك الجماهير وحشد طاقات الشعب” إلى ضرورة “ضبط تلك الجماهير والسيطرة على الناس”. ضمن هذا السياق، اكتملت مراحل صعود العسكر السلم الاجتماعي في ثورة “البعث” بالزواج من بنات العائلات الأرستقراطية العتيقة، فتشابكت مصالح الكلّ مع الكلّ، وأصبح المستفيدون في الجيش والحزب والطبقات الميسورة إسمنتاً أضيف إلى دعائم النظام، ما يصعب فكفكته. وأمكن لدولة “البعث” أن تمعن شرعيتها عبر تركيبةٍ طبقيةٍ مستجدّة من فئات مدنية وعسكرية وبرجوازية، اختصرت سورية بشخص “الأخ الأكبر” وحزبه. وبالتالي، يتفاقم الخطأ عندما يعتقد بعضهم أن من السهل إزاحة هذا النظام بإزاحة الشخص والحزب.
السياسة السورية ليست “فنّ الممكن” على الإطلاق، بل فنّ “القنص الوقح” من أفواه الفقراء، بعدما غدت حقلاً مباحاً للقوّة والنفوذ والاغتناء
والحقّ يُقال إنّ السياسةَ السورية ليست “فنّ الممكن” على الإطلاق، بل فنّ “القنص الوقح” من أفواه الفقراء، بعدما غدت حقلاً مباحاً للقوّة والنفوذ والاغتناء. والدليل أنّ سورية، وهي بلدٍ مصدّر للبترول، رفضت الانضمام لمنظمة أوبك، كي تُبقي إنتاجها، وأرباحها، بعيدةً عن الرقابة والشفافية والإعلام، ما يُطلق العنان لتخميناتٍ فلكيةٍ حول أصول بشار الأسد وثرواته في الخارج، والتي قد تقدّر بتريليونات الدولارات. أرقام مرعبة ستظهر للعلن، إنْ صدقت النيّة بالطبع، بعدما أقرّ مجلس النواب الأميركي مشروع قرار يقضي بالكشف عن صافي ثروة رأس النظام السوري والدائرة المقرّبة منه. وبين طوابير الخبز وطوابير آخر إصدارات شركة آبل للهواتف المحمولة، يجب أن يفهمَ السوري أنّ سرطانَ الفساد ليس فشلاً حكومياً غير مقصود، أو تشويهاً متعمّداً للحكم، بل هو النظام بحدّ ذاته. نظامٌ يؤمن أنّ الخطرَ الحقيقي لا يكمن في تهديد عرشه بأسلحةٍ نووية أو كيميائية، أو عقوباتٍ اقتصادية، أو عزلٍ دبلوماسي، بل يكمن في ذاك “السوري الضالّ” الذي لا يتوانى عن مواجهة “الأخ الأكبر” المستقرّ في الشعور واللاشعور، في اليقظة والمنام، لأنه يؤمن أنّ ما يخشاه، حقيقةً، سوف يدمّره بالتأكيد. لذا يسعى لا إلى أن يكون حيّاً بقدر أن يبقى إنساناً. مقابل ذلك، لا ننفي وجود فئةٍ واسعة من السوريين تشبه ما يُعرف بمصطلح “الضفدع المغلي”، عن قصةٍ شائعةٍ تقول إنّ الضفدع سوف يقفز فوراً عندما يوضع في ماء حار، بينما إذا وُضع في ماءٍ معتدل الحرارة يتمّ تسخينه ببطء، فإنّه لن يقفز وسيبقى في الماء حتى بعدما يصير حاراً جداً، لأنّه لن يشعر بالخطر التدريجي الحاصل، وبذلك يموت عندما تبلغ درجة الحرارة قدراً مميتاً. ومن دون أدنى شكّ وحده السوريّ يموت سعيداً هذه الأيام لأنّه بهذه الطريقة فقط يتحرّر من حقيقةِ أنّ الحريةَ الوحيدة التي عرفها لم توجد قطّ سوى في تلك السنتيمترات القليلة داخل جمجمته الصغيرة. يموت ولسان حاله يردّد آخر ما قاله ونستون تشرشل قبل أن يدخلَ في غيبوبةٍ أياماً، ويفارق الحياة إثر ذلك: “سئمتُ من هذا كلّه .. نعم .. سئمتُ من هذا كلّه”.
المصدر: العربي الجديد