غزوان قرنفل
منذ بدء تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا عقب استخدام ميليشيا أسد سلاح الطيران والصواريخ ضد المدن والبلدات الآهلة بالسكان، في محاولة بحث من هؤلاء عن ملاذ آمن افترضوا أنه سيكون قصير الأمد، إذ لا يعقل أن يشاهد المجتمع الدولي هذا المستوى غير المسبوق في الإجرام والاستباحة العلنية لحياة المدنيين دون أن يكون له موقف ما تجاه السلطة التي تفعل ذلك جهاراً نهاراً دون أي خوف من العواقب، ليتبيّن له أن استباحة حياة السوريين ليست سبباً كافياً لتغيير السلطة الحاكمة، وأن تغيير الشعب بدلاً من تغيير النظام ربما يكون حلاً أكثر معقولية، فلطالما كان هذا النظام نقطة ارتكاز مهمة في خريطة الخدمات الوظيفية الإقليمية والدولية، فهو حاجة أمنية إسرائيلية أثبت نجاعته بأداء موجباتها خلال نصف قرن.
منذ تلك اللحظة طرأ وضع جديد على الدولة والمجتمع التركيين واجهته السلطات التركية باستجابة معقولة آنذاك حيث منحت بطاقة الحماية الصادرة عن إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد) لمن يرغب بها والإقامة المؤقتة (الدفتر الأزرق) لمن يرغب أيضاً، أعقب ذلك بفترة ومع تزايد أعداد اللاجئين أصدرت قانون الحماية المؤقتة وأخضعت السوريين لأحكامه وأنشأت مديرية الهجرة وأناطت بها معالجة شؤون السوريين القانونية ومسألة إصدار بطاقات الحماية فضلا عن الإقامات السياحية وغيرها من أنواع الإقامات، وهنا بدأت فعلياً المشاكل والعقبات التي بدأت تتفاقم وتظهر بأشكال مختلفة بين الحين والآخر بشكل جعل الاستجابة للموجبات والمقتضيات التي يتطلبها تكييف أوضاع السوريين مع كل مستحدث من الإجراءات عبئاً مرهقاً للسوريين ولدائرة الهجرة نفسها، فمرة يجب استبدال بطاقات الحماية بهدف تغيير الرقم الوطني (TC) ليبدأ برقم (99) بدلاً من (88) على اعتبار أن السيستم لا يتقبل الرمز الأخير، باعتباره يخص (آفاد) لا دائرة الهجرة… ومرة أخرى يجب استبدال نموذج بطاقة الحماية بكلّيته، وطَوْراً يجب أن تكون البطاقة ممهورة بختم الدائرة… ثم صار يتعين على السوريين ممن هم تحت الحماية أن يقوموا بتحديث بياناتهم، وبعدها عليهم أن يحدّثوا عناوين إقامتهم في دوائر النفوس المسجلين بها، تلاها تغيير يُوجب تحديث وتثبيت العناوين في دائرة الهجرة نفسها بدلاً من دوائر النفوس ويجب أن يتم ذلك بحجز موعد إلكتروني ضمن مدات زمنية محددة لم تسمح آلية الحجز الإلكتروني للمواعيد بحجز مواعيد ضمن تلك المدات، فكان على اللاجئ أن يدفع الثمن مجدداً بإيقاف قيود الكيملك لمن حدّث ولمن لم يحدّث عقاباً على تجرؤ 20 % منهم على التأخر في إتمام عملية التحديث وتثبيت العناوين ضمن المهلة المقررة والتي أصرّ السيستم – وليس اللاجئين- ألا يستجيب لها.
خلال تلك الرحلة العجائبية التي نرويها لم يخلُ الأمر من حملات ترحيل منظمة وأخرى اعتباطية، لكن كلها لم تكن طوعية بطبيعة الحال، غالباً ما كانت تتزامن أو تعقب ضغوط حملات مكثفة عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي من بعض رموز المعارضة التركية وأنصارها، تغذّيها بعض التصريحات الحكومية التي سأكتفي بالقول إنها لم تكن رشيدة، في استجابة حكومية غير طبيعية واعية أو غير واعية لابتزاز الشارع التركي المعارض وخطابه النابذ للاجئين السوريين والرافض لبقائهم في تركيا، في سباق بين الفريقين على استثمار ورقة اللاجئين في الصراع السياسي الداخلي، وكان السوري وحده فقط من يتعيّن عليه سداد فاتورة هذا الصراع.
اليوم مضى على وجود السوريين في تركيا عقد كامل دون أن يشعروا بإمكانية بناء فرصة استقرار حقيقية تمكّنهم من العيش بسلام داخلي وطمأنينة والتأسيس لحياة جديدة، ولاتزال حياتهم محكومة بانعدام مركز قانوني يضمن لهم ذلك… ومحكومة بمزاجية الحكومة وروتينها وما يستجدّ على بالها من تحولات في الموقف من قضية اللاجئين ومعالجاته، وما يعنّ على رأس إدارييها من إجراءات يرون – أو يعتقدون – أنها تسهم في ترتيب أوضاع اللاجئين السوريين، في حين أنها حقيقة تجعل حياتهم جحيماً وتجعلهم قلقين أكثر على مستقرهم وعلى إمكانية الاستمرار في هذا الوضع القلق، وتعنّ على بالهم التساؤلات: ما هو مصيرنا هنا؟؟ ما هو مصير ومستقبل أبنائنا الذين يدرسون في مدارس وجامعات تركيا؟؟ ما هو مصير أموالنا واستثماراتنا في ظل هذا التأرجح في أوضاعنا؟؟ هل يجب علينا المخاطرة بركوب البحر؟؟ أم علينا البحث عن ملاذ آخر ربما يكون أكثر طمأنينة واستقراراً لحياتنا المتوترة القلقة؟؟!!!… وهناك دوماً ترددٌ في حسم القرار فليس سهلاً أن تتخذ قراراً مرة أخرى باقتلاع نفسك وعائلتك من تربة زرعتها فيها، افترضْتَها يوماً تربة صالحة لاستنبات مستقبل، ليصدمك الواقع وتتعرى الحقائق ألا شيء يشي بصوابية ذلك.
عقد كامل مضى دون أن تتمكن دولة بحجم تركيا أن توفر مستقراً آمناً لبضعة ملايين من البشر أو تكيّف وضعاً قانونياً لهم يسمح بذلك ويفتح أمامهم سبل الاندماج والتكيف… أو ربما هي لا تريد ذلك.
تنبئنا المعلومات أن مفوضية شؤون اللاجئين الأممية أنفقت فقط خلال العامين 2020 و 2021 على ملف اللاجئين السوريين في تركيا مبلغاً قدره خمسة مليارات وخمسمئة مليون دولار، هذا بخلاف ما تتحصل عليه تركيا من منح ومعونات لإدارة ملف اللاجئين من الاتحاد الأوروبي، وإذا ما تفحصنا الأثر الذي يُفترض أن تحدثه البرامج المتعلقة بدعم وخدمة قضايا اللاجئين والذي يُفترض أن يكون أحدث فارقاً واضحاً في طبيعة ومستوى حياة أولئك اللاجئين بالنظر لضخامة المبالغ المخصصة لذلك، لا تجد ولا تلمس أي أثر ملحوظ، بل ربما على العكس تماماً تجد في بعض الأحيان تراجعاً وانحداراً في طبيعة ومستوى تلك الخدمات وآلية تطبيقها، ما ينعكس سلباً على أوضاع اللاجئين بشكل عام.
فلا فرص عمل جديدة ولا قوننة لأوضاع العمال ولا تناسب بين جهدِهم وأجورِهم… ولا تطورَ جديداً في مِلَفّ المعلمين السوريين الذين تَمَّ الاستغناء عنهم وعن خدماتهم بطريقة مشينة، مع بقاء المعلمين الأتراك على رأس عملهم في برنامج إدماج الطلبة السوريين مع أقرانهم الأتراك وتلقي رواتبهم من (اليونيسف) المؤسسة الدولية الداعمة للمشروع، ولا ارتقاء في مستوى الخدمات التي تقدمها مديريات الهجرة التي يحتاج بعض موظفيها إعادة تأهيل وظيفي على الأقل في طريقة التعامل اللبق مع عموم الأجانب المراجعين، وفي مقدمتهم السوريون، باعتبارها واحدة من واجهات البلد الرسمية التي يتعامل معها الأجنبي، ومن المهم أن تعكس رقياً في تعاملها مع الآخر الزائر أو المقيم.
إذاً، ما قيمة كل ذلك الإنفاق وتلك البرامج إن لم يكن لها أثر واضح وملحوظ ومحسوس من قبل اللاجئين أنفسهم؟؟ ولو أن المفوضية أنفقت تلك المبالغ على برامج إعادة التوطين لكان أثرها أكثر وضوحاً وجدوى، ولأراحت المجتمع التركي النابذ للسوريين من كل هذا الجدل والشحن العنصري والخطاب التعبوي المشبع بالكراهية… لكن بكل أسف يد المفوضية مغلولة… وحال السوريين من سيئ لأسوأ، ولسان حال الحكومة والمعارضة معاً يقول: أيها السوري لن نقبل أن تكون بلدنا معبراً لك نحو حياة جديدة، ولن نقبل أيضاً أن نجعلها مستقراً لك.
المصدر: أورينت