جسر : متابعات
قبل المجزرة الكبيرة بالجنود التي قضى فيها 33 جنديا تركيا في شمال سورية، والتي ارتكبها الطيران الحليف للروس، وأُكمِلت بضرباتٍ مدفعيّةٍ، كان الخلاف الروسي التركي قد تصاعد بشكلٍ كبير؛ وفشلت اللقاءات بين الدبلوماسيين والعسكريين الأتراك والروس، في الوصول إلى تسوية بينهما. يتمسك الروس بالتقدم الميداني، والأتراك باتفاق سوتشي. والمجزرة هذه ليست بجنودٍ للنظام أو للمعارضة، هي بجنودٍ أتراك، وهذا جديد نوعي كبير، ويأتي في سياقِ قتلِ عدّة جنودٍ أتراك من قبل، وإسقاط طائرات للنظام السوري بيد الفصائل المدعومة من تركيا. هذه الوقائع، وإضافة إلى المجزرة، تفرض على الحكومة التركية التي أرسلت جيشاً إلى إدلب، منذ أكثر من شهر، عدم التراجع عن اتفاق سوتشي، أو الوصول إلى تسويةٍ جديدة، لا تكون اتفاقية أضنة بين النظام وتركيا مرجعيتها، ولا التقدم الروسي السوري أخيرا في حلب وادلب.
الآن، أوروبا وأميركا محشورتان؛ فهناك مجزرة ارتكبت بجنود أحد جيوش دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والروس يضغطون على الأتراك لينسحبوا من إدلب، وتركيا تهدّد أوروبا بفتحٍ كبيرٍ لحدودها أمام ملايين السوريين ليصلوا إليها. وبالتالي الاكتفاء بالدعم السياسي والدبلوماسي لتركيا لم يعد كافياً، وكذلك لا يمكنهم الركون للروس، وهم يبتزّون تركيا، بسبب سوء علاقة الأخيرة مع أوروبا والأميركان. روسيا تبتز كذلك أوروبا، عبر التهديد باللاجئين، ويُوقف ذلك، فقط اتفاق بين أوروبا وروسيا، يعيد النظام إلى الشرعية الدولية، وإرسال الأموال إلى سورية لإعادة الإعمار. هذا لن يتحقق للروس، قبل تغييراتٍ كبيرة في طبيعة النظام السوري، ولكن الجديد التركي هو المشكلة الآن بالنسبة إلى “الناتو”، وبالتالي أوروبا مجبرة على اتخاذ موقفٍ يتجاوز ما ذكرته، ويُقوّي تركيا في مواجهة روسيا فيما يحصل في إدلب، وفي كل سورية.
ربما لا تعلم روسيا التي ارتكبت المجزرة أن الأمر سيكون مقتلةً كبيرة، وميدانياً، تمّ طرد جنود النظام من بلدة سراقب وبلدات أخرى، وهناك إمكانية لتكرار ذلك. تركيا الآن تستطيع كسر يد روسيا، وانهاكها بشكلٍ حقيقيٍّ؛ فهناك وفرةً في جنود الفصائل المعارضة، وهم راغبون بمعارك حقيقيّةٍ ضد روسيا، والمجزرة ذريعة الأتراك؛ هذا احتمال قائم. المقصد أن تركيا لن تنام على هذه المجزرة، وستحصل على ثمنٍ كبيرٍ قبالتها، ويتجاوز قتل مئات من جنود النظام السوري.
كانت المصالح التركية الروسية تقوم على تجنيب الدولتين تهديد تحالفهما الاستراتيجي “الاقتصادي والعسكري”، وألّا يؤدي أي تصعيد ميداني إلى تحطيم تلك الاستراتيجية. المقتلة الجديدة ستجبر كل الأطراف على إعادة النظر بسياساتها، روسيا وتركيا وأوروبا وأميركا. تركيا ليست دولةً هامشيّةً في إقليمنا، وإن كانت ليست دولةً عظمى أيضاً، وكل الدول الكبرى تراها دولة مستقرة، ولاعباً أساسياً في المنطقة، وهي مهمة في لعبة التقاسم الدولي الجديد للعالم المهمش؛ روسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا، مجبرة على تحديد موقف مما جرى.
تركيا التي دفعت الفصائل لتتقدّم معنية الآن، بما هو أكثر من ذلك، ولكن أيضاً ضمن تفسير موضوعي لاتفاق سوتشي السابق، وبما لا يهدّد العلاقات الاستراتيجية مع روسيا. روسيا هي الحاسمة، فهل تتراجع عن دعم النظام في الحرب التي يتوهم أنه يقوم بها ويستعيد بقوته “سيادة” سورية على أراضيها! والكفّ عن تفسير “سوتشي” بوصفه اتفاقا مؤقتا، ريثما تتمكن، هي والنظام، من سحق الفصائل الرافضة للنظام، وفرض معادلة جديدة على أميركا، وبما يمهد لإخراج إيران وتركيا. أن تزجّ تركيا كل هذه القوات، وترفض ذلك روسيا، وتتهمها بحماية الإرهابيين ودعمهم كما يجري أخيرا، فهذا عامل إضافي للتصعيد بين الدولتين، وبالتالي هناك تهديدٌ جديٌّ للمصالح الاستراتيجية بين الدولتين.
هل ينقص بوتين الدهاء، أم يستعجل نشوة الانتصار، وفرض واقع جديد على الأميركان؟ وفي حال تصاعد الخلاف؛ تركيا تستطيع إدخال روسيا في مستنقعٍ كبير، والعكس صحيح. وبالتالي، ستفرض التطورات الميدانية المتسارعة لقاءَ قمةٍ بين الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين. وسيحاول الطرفان تجنب التصعيد بين جنودهما، وسيخوضانها عبر جنود المعارضة والنظام! هذا ضروري، بعد المقتلة، ولامتصاص غضب الأتراك، ولكنه، من ناحية أخرى، قد يعقد المشهد الميداني كثيراً؛ فتتقدم الفصائل المناهضة للنظام إلى بلداتٍ كثيرة، تمنع النظام من تأمين البلدات المحيطة بالطريق م4 بل وإم 5. روسيا مجبرة الآن على تسويةٍ جديدة، والأتراك، سيصعدون كثيراً. والأوروبيون والأميركان لن يتمكنوا من تكرار التصريحات السابقة، وبالتالي ستكون روسيا مجبرة على إيقاف تقدّمها الميداني، سيما أن شباط أردوغان انتهى. أردوغان، لا يمكنه التراجع، وهو مجبرٌ على التصعيد.
هل الكلام عن مواجهةٍ بين روسيا تركيا ممكنة، بعد كل الاحتمالات أعلاه؟ استبعدت ذلك من قبل، ولكن روسيا ارتكبت المحظور وتجاوزت الحدود المسموحة بها. الوقائع تتغير تباعاً، والمواقف تتصاعد، وأصوات المعارك بين الطرفين أصبحت تقريباً السائدة في اللغة الدبلوماسية، ولم يعد يفيد الكلام إن تركيا تؤكد أن طائرات النظام السوري ودباباته هي المسؤولة، ولا القول الروسي إن جنوداً أتراكا كانوا في مواقعٍ لم يتم إعلام روسيا بها، وأن روسيا استهدفت إرهابيين! التصعيد كبير؛ وهو وإنْ لا يسمح بمواجهةٍ حقيقية، إلا أنه لا يستبعد عملياتٍ عسكريّة تركية نوعية أولاً، وربما مواجهة محدودة بين الدولتين كذلك.
(العربي الجديد )