تدور أحداث رواية «الزيني بركات» للروائي المصري جمال الغيطاني عام 1517 الذي شهد هزيمة المماليك الأخيرة أمام العثمانيين، لكنها تربط بين بين استبداد حكام مصر آنذاك وخيانات قادتهم ووحشية البصّاصين (جواسيس السلطان) لتقديم تفسير معاصر لهزيمة مصر 1967، ونقد للحكم العسكري – الأمنيّ الذي سجنه هو وعدد من كتاب جيله، وقد تحولت الرواية الى مسلسل بالاسم نفسه من بطولة أحمد بدير ونبيل الحلفاوي.
في تناول للحقبة نفسها، بث راديو 4 البريطاني في عام 2015 مسلسلا إذاعيا اسمه «طومان باي». وظف المؤلف الخلفية التاريخية لكن الدراما الفانتازية غيرت اسم عاصمة الإمبراطورية من القاهرة إلى «طومان باي»، وقدّمت خلطة يمكن قراءتها فلسفيا، حيث جعلت شجر الدر، السلطانة التي نقلت الحكم من الأيوبيين للمماليك عام 1250، زوجة لقانصوه الغوري آخر سلاطينهم الذي مات أثناء الحرب مع العثمانيين عام 1516 ليستلم الحكم ابن أخيه طومان باي لقرابة 3 شهور فقط.
يمكن اعتبار استخدام مسلسل «ممالك النار»، الذي أنتجته شركة إماراتية، لهذه المرحلة الزمنية، موفّقا بسبب الحيثيات الدراميّة الكبيرة التي توفّرها هذه الحقبة، كما أنه يمثّل خطوة في الإنتاج الملحميّ الدراميّ الذي تحتاجه الدراما المنتجة عربيا، وهو أيضا مناسبة لتقديم قراءة جديدة لتلك الأحداث التاريخية بغرض إغناء رؤية المشاهد العربي.
توفّر للمسلسل طاقم مهم بدءاً من الكاتب والروائي والسيناريست المصري محمد سليمان عبد المالك؛ والمخرج الإنكليزي بيتر ويبر، الذي أخرج 4 أفلام سينمائية هي «صعود هانيبال» و»فريميسون» (فيلما رعب) و»امبراطور» (دراما تاريخية)، و»الفتاة ذات قرط اللؤلؤ»، والمنتج الكاتب والإعلامي ياسر حارب، الذي شغل مناصب كبيرة في بلاده، أهمها إدارة «المشاريع الخاصة في المكتب التنفيذي لمحمد بن راشد آل مكتوم»، و»الأمين العام للمنتدى الاستراتيجي العربي»، كما ضم المسلسل الذي صوّر في تونس وتكلّف أكثر من 40 مليون دولار ممثلين مرموقين كخالد النبوي ورشيد عساف ومنى واصف وكثيرين آخرين. من المفترض، أمام هذا السخاء الكبير على الإنتاج والكتابة والإخراج والتصوير والتمثيل، أن نكون أمام مسلسل نوعيّ يضيف فعلا إلى التاريخ الدرامي العربي، لكن المتابع المحايد لحيثيات المسلسل وهوامشه الأخرى (ومنها اللقاءات والتغريدات والتصريحات العديدة للكاتب والمخرج والممثلين) سرعان ما يتبين أن البذخ والحرفية في التمثيل والإخراج والكتابة مخصّصة للمشاركة في حرب لا تتعلق بالمماليك والعثمانيين، بل بالحروب الجارية حاليا على الساحات العربية!
شعب محتل ومصاص دماء
حسب عبد المالك، مؤلف العمل، فإن المسلسل «داس على عصب حساس جدا لدى أتباع فكر الخلافة ومريدي تركيا»، وأن هدفه «نشر الوعي بالتاريخ الحقيقي وليس بالطريقة المزيفة التي يعرضونها في أعمالهم»، أما ياسر حارب، منتج العمل، فقال إن المسلسل هو عن «السلطان المملوكي طومان باي في القاهرة في مواجهة المحتل العثماني سليم الأول»، وأضاف محمد جمعة، أحد الممثلين إنه «في ناس بتسبح بحمد تركيا، لكن تاريخيا ده شعب محتل ومصاص دماء لكل الدول العربية وجفف منابع الشرق الأوسط، وكان يجب أن ترفع دعوى قضائية من كل الدول التي احتلتها الدولة العثمانية».
هدف المسلسل إذن هو «نشر الوعي الحقيقي» لمواجهة الدراما التركية «المزيفة»، عبر الانحياز في الدراما المعروضة لواحد من الطرفين التاريخيين (المماليك) من «أصحاب الأرض» وإظهار محاسنهم، في مقابل «المحتل العثماني»، وإبراز شروره.
يضع «برومو» المسلسل هذه المعادلة في جملة مكتوبة بحروف حمراء: «قانون دموي حكم امبراطورية فأصبحت لعنة تطاردهم» وبذلك يختصر منظور الإنتاج الضخم ليصبح بروباغاندا سياسية، ويتراجع المستوى فجأة فلا يعود لإنجازات المؤلف والمنتج والمخرج دور غير الاستخدام الهابط في حرب ليست الدراما غير مخلب فيها، فتنشب معركة إعلامية، وبين المدافع عن العثمانيين والمهاجم لهم تختلط السياقات ويتعرض التاريخ والدراما لاختزالات إطلاقية بائسة.
القضية إذن حرب العثمانيين الذين يمثلون قوى الشرّ والظلام وسفك الدماء… والمماليك الطيبون الرومانسيون الذين يدافعون عن المصريين.
أناخت هذه الأجندة المكشوفة على تفاصيل المسلسل بشكل كبير، فسليم الأول شرير منذ طفولته، وهو يقتل إخوته وأبناءهم (وكذلك طفليه وأمهما)، ويحارب والده فيهزم، ثم تقرر مجموعة مرعبة يضع زعيمها قناعا مخيفا على وجهه تدعى «الجهاردية» مساعدته ليصبح سلطانا، ويعتبر الزعيم المذكور جماعته تقاتل لتوحيد كلمة الإسلام وعودة المهدي، لكنه، ويا للمفارقة، يوصف نفسه وجماعته بـ»قوى الظلام» (وهو توصيف يستخدم عادة ضد الإخوان المسلمين)!.
الغوري وطومان باي، من ناحية أخرى، شخصان لطيفان وصاحبا مروءة ولا يريدان السلطة أصلا!، وهما رومانسيّان يحب كل منهما امرأة واحدة فقط، ويقاتلان المماليك الذين يسرقون ويظلمون المصريين، ويرافق طومان باي مصريّا يدعى جمال عبد الكريم (لأن جمال عبد الناصر كانت ستبدو فاقعة)، وأبوه هو الطبيب الخاص للغوري.
القضية إذن حرب العثمانيين الذين يمثلون قوى الشرّ والظلام وسفك الدماء… والمماليك الطيبون الرومانسيون الذين يدافعون عن المصريين.
إضافة إلى هذه الغارة على التاريخ يشكو المسلسل من مشاكل كان تجاوزها ممكنا لو لم تكن الأهداف السياسية للمسلسل أهم من تجويد الدراما، مثل جعل طومان باي يتكلم العربية بعد خطفه طفلا من بلاد القوقاز، وإعطاء دور طومان باي الشاب لخالد النبوي، وهو ممثل تجاوز الخمسين، وإبلاغ العرّاف للغوري بأنه سيموت «دفاعا عن قلعته»، وكثير من المشاهد التمثيلية غير المقنعة، مثل مشهد وفاة أم سليم.
من الدراما إلى التاريخ
جاء المماليك من بلدان مسيحية على أطراف العالم الإسلامي، وكان منهم روس وقوقاز وأبخاز وجورجيون وهنغار وإيطاليون وألمان، وكانوا يعلمون التركية والعربية والشريعة وفنون الحرب والدبلوماسية، ثم يتم توزيعهم على المناصب السياسية والعسكرية، ويكون منهم كبار الموظفين والقادة، وهو أمر كان جاريا قبل حكم المماليك واستمر بعدهم. قام نظام المماليك على التآمر والاغتيالات، ولا تختلف قصص شخصياتهم المؤسسة، كبيبرس مثلا، عن قصص بعض السلاطين العثمانيين الدموية، فبيبرس كان مملوكا للملك الصالح، وعند زواج شجر الدر (زوجة الصالح) بالمملوك ايبك هرب إلى الشام، وأعلن عصيانه عليه، ولكن حين اجتاح هولاكو بغداد عام 1258 وتقدم نحو الشام حارب بيبرس مع قطز وباقي المماليك عام 1260 وتمكنوا من تحقيق أول هزيمة للمغول، وكان بيبرس عديم الرحمة ونفذ عددا من الاغتيالات، أهمها بتوران شاه، ابن الملك الصالح وآخر ملوك الأيوبيين في مصر، كما قتل شريكه وحليفه قطز، بعد انتهاء معركة عين جالوت. لقد كانت القاعدة الذهبية للمماليك (وليس للعثمانيين فقط): من يقتل الملك يصبح ملكا.
لا يمنع هذا من تقييم التاريخ الكبير للمماليك الذين وجهوا ضربة هائلة للصليبيين أيام بيبرس (مهدت لرحيلهم على يد الأشرف خليل عام 1291)، وحموا حدود العراق من المغول، وخاضوا معارك ضد البرتغاليين، وساهم ذلك في فترة سلام وازدهار اقتصادي، وتنمية وتوسع للقاهرة التي تحولت إلى أعظم مدن العالم في ذلك التاريخ (وصفها ابن خلدون حين زارها عام 1382 بعاصمة الإسلام)، كما توسعت الإمبراطورية إلى شرق أناضوليا وأرمينيا الصغرى واليمن والنوبة وصقلية وقبرص والسودان والحجاز.
كان المماليك رعاة كبارا للفن، وأنشأوا مؤسسات دينية وصوفية وجوامع وأضرحة وخانقانات ومشاف، وقد تزاوجوا مع المصريين (سمّي أبناؤهم «أولاد الناس»)، الذين ظهر منهم دبلوماسيون وكتاب وفقهاء، كما كان الحكم المملوكي من أفضل فترات العمل الموسوعي في التاريخ الإسلامي. جاءت حرب المماليك مع العثمانيين على خلفية الصراع مع الصفويين (وهم قبائل من أصول تركية أيضا) في إيران، وترافق إنهاء حكمهم ضرب الطاعون مصر فقلّت المحاصيل، وبدأ البدو مهاجمة المدن وتراجعت أوضاع السكان بشدة، وساهم ذلك في هزيمتهم الأخيرة، حيث سيموت سلطانهم قانصوه الغوري خلال معركة مرج دابق.
هذه خلاصة لتلك الحقبة الخطيرة في التاريخ الإسلامي، وهي حقبة تحتمل الفانتازية بأشكالها، لكنها لا تحتمل الاستقطاب الموتور الذي يهلك الدراما ولا ينصف التاريخ، فلا العثمانيون «إخوان»، ولا المماليك إماراتيون!
حسام الدين محمد -القدس العربي