أخطر ما اقتبسته السيسيّة من الأسديّة تجريم المجتمع بأكمله. الجميع مشكوك بوطنيّته، والجميع
متآمرٌ وخائن حتى يثبت العكس، إن ثبت. الفرقة الناجية هي تلك التي أسسها وأحاط نفسه بها من الضبّاط الأشدّ موثوقيّةً في المخابرات والجيش، إلى زمرة المطبّلين من الإعلاميين ومن الوسط الفنّي، إلى حيتان السوق من أصحاب رؤوس الأموال والاحتكارات الكبرى.
تُدرك السيساويّة فقدانها الشرعية الدستورية، وما حاولت إيهام نفسها والشعب المصري والعالم به من شرعية شعبية، مؤيدة لانقلابها على حكم الرئيس محمد مرسي، ليست أكثر من رداء واهن، لا يقي من حرّ ولا من قرّ. لذلك اتجه رأس النظام إلى بناء شرعيّة خارجية، فتراه يستثمر في ابتزاز العالم بقضايا الإرهاب واللاجئين وأمن إسرائيل واستقرار النظام الإقليمي، ويضع نفسه في موقع الخادم المطيع للمشاريع الأجنبيّة، مهما كان ثمنها ولو على حساب الأمن القومي المصري أو العربي.
في أقصى حالات وهنها ومرضها، لم تصل مصر إلى هذا الواقع المشين والمخزي. فقر مُدقعٌ ناتج عن نهب مركّز وفساد ممنهج، تنازلٌ عن أجزاء مهمّة من الأراضي ذات اعتبارات جيوسياسة وسيادية على مستوى الإقليم، وليس مصر فحسب، تفريط بمصادر الثروة الباطنيّة متمثّلة بعقود النفط والغاز مع إسرائيل، وبحصّة مصر من حقول الغاز في قاع البحر المتوسط، إهمالٌ غير مفهوم بالأمن المائي المتمثّل بالنيل الذي هو بحق شريان حياة مصر والمصريين عبر التاريخ، التخلّي الكامل والكلّي عن دور مصر في محيطها الأفريقي وفي عالمها العربي، التراجع عن دورها القيادي والريادي والانحدار إلى مستوى التابع لمشاريع الآخرين.. وهزائم وتنازلات مجانيّة مُفتعلة كثيرة.
الفروق بين الحالتين السورية والمصرية كبيرة كذلك، لعلّ أهمها بنية كل من المجتمعين المختلفة، ففي سورية قوميات وأعراق وأديان وطوائف ومذاهب كثيرة متنوعة، بينما في مصر لا يوجد سوى أكثرية عددية من المسلمين السنّة وأقليّة عددية من المسيحيين الأقباط. هذا بالضبط ما أثّر على شكل الجيش وبنيته في كل من البلدين، ففي حين اعتمد حافظ الأسد، ومن بعده وريثه، مسألة تطييف المؤسسة العسكرية، لم يحتج الحكّام المصريّون ذلك، بدءاً من جمال عبد الناصر، لأنهم اعتمدوا وصفة المشاركة الفاعلة لكبار القادة العسكريين، ومشاركتهم الفعليّة في الحكم. ويحاول السيسي، منذ وصوله إلى الحكم، تغيير هذه القاعدة الذهبيّة، على الرغم من أنها هي بالذات التي جعلت الجيش المصري موحّداً، وفي خندق واحد خلف أي رئيس يأتي من بين صفوفه. هذا بالضبط ما يشكّل عنصرا ثقيلا لصالح القوى الشعبية والسياسية المعارضة للحكم بهذه الطريقة. ظهرت مؤشرات كثيرة تؤيّد هذا الطرح منذ اليوم الأول للحملة الإعلامية التي يشنّها المقاول والممثل، محمد علي، ضدّ الرئيس المصري شخصياً. كمّ المعلومات وطبيعة الأداء والتجاوب الشعبي معه ومواقف بعض كبار القادة الحاليين والسابقين في الجيش والمخابرات، تدلّ على وجود حلفين، أو محورين، على الأقل، يتنازعان السلطة في مصر، وبالتأكيد سيكون الفوز حليف من يقف معه المصريّون، أو أغلبيّتهم.
لو قُيّض للسيسي أن يستمرّ في الحكم، ولو استطاع أن يتجاوز هذه المحنة، ولو استطاع القضاء
على المحور أو الحلف الثاني الذي يسعى إلى إطاحته، لاستقر له الأمر حتى مماته، ولاستطاع إنجاز التوريث الذي عجز عنه حسني مبارك وقاومه الجيش والشعب المصريان. سيكون من الطبيعي أن يسحق السيسي كلّ صوت معارض إذا انتصر الآن، وسيفعل تماماً كما فعل حافظ الأسد، وإذا ثار الناس عليه فيما بعد أو على وريثه، فإنه سيدمّر مصر كما فعل حافظ ووريثه.
يستمدّ السيسي شرعيته الآن من رضا إسرائيل والسعودية والإمارات والرئيس الأميركي ترامب، وقد صرح الأخير بذلك قبل أيام خلال استقباله له على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكنّ ذلك ليس كافياً لاستمراره في الحكم، إنّه بحاجة لبعض القبول الداخلي، وخصوصا القبول الشعبي، سيكون من الخطأ الآن الاستكانة والوقوف على الحياد، فقد ذاق المصريّون الأمرّين خلال السنوات الست الماضية، وعليهم اتخاذ القرار الحاسم، عليهم الوقوف بوجه تحوّل نظام الحكم في مصر إلى نسخة ثانية من نظام حكم الأسد في سورية.
الفرصة الآن سانحة وعظيمة لوقف هذا السرطان المُرعب، قبل أن يستفحل. المسؤولية الآن ليست مسؤولية المصرييّن فقط، بل أيضا هي مسؤولية كل عربي وكل إنسان يطلب الحريّة والكرامة والديمقراطية. علينا جميعاً أن نقف مع أخواتنا وأخوتنا في مصر، علينا أن نشحذ الهمم، وأن نرفع الأصوات عالياً، علينا أن نقف بوجه كلّ من يحاول سرقة ثورة المصريين الثانية. مصر عمادنا وحزام ظهرنا، ألم يقل حافظ إبراهيم يوماً: أنا إن قدّر الإله مماتي/ لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي.
هبّ المصريّون مجدداً، فألهبوا مشاعرنا وخيالنا وتوقنا للحرية والكرامة، أيقظوا فينا الإحساس بإمكانية القيام والنهوض من تحت الرماد. ونحن السوريين الثائرين على الأسديّة نقف مع المصريّين الثائرين على السيساوية. لقد أراد المصريّون اليوم الحياة، فهل يستجيب القَدَر؟