جسر – صحافة
(عبد الناصر العايد)
لافت للنظر ما يشهده إقليم الشرق الأوسط من تحولات في العلاقات الجيوسياسية، تنحو إلى خفض العداء، وتسوية الخلافات، والتحول من وضعية الصراع إلى وضعية تنافسية، وهي جميعها تؤكد ميلاً متصاعداً للتفاعل الداخلي الإيجابي بين دول ومجتمعات هذا الحوض، بمعزل نسبي عن صراعات القوى العظمى وأجنداتها. وذلك لأن تلك القوى تتراجع، أو تنسحب من المنطقة من ناحية، ولأن الإقليم يشهد بروز قيادة جديدة لديها نزوع إلى بناء سياسات خارجية ومحلية مستقلة، تتواءم مع تطلعاتها المستقبلية، خصوصاً في بعض دول الخليج العربي التي تمكنها حوافظها المالية المتراكمة والمزدهرة من المطالبة بدور اللاعب السياسي.
أسباب إعادة بناء العلاقات الإقليمية على هذا النحو، عديدة، أبرزها استنفاد صراعات الشرق الأوسط الذاتية لطاقة المتنازعين أنفسهم، ويكاد حجم ونفوذ كل قوة يعبّر اليوم عن قوته الحقيقية في المستوى الصفري، الذي يهمل مَن يسقط دونه. والمشهد يقول بوضوح إن القوى الفاعلة الحالية، هي مالكة حق اتخاذ القرار، ولا يمكن تجاوز أي منها، بالقدر نفسه الذي لا يمكن معه جلب عنصر من خارجها وإحلاله بين هؤلاء الأقوياء إقليمياً، فالتفاهم إذن هو ما يجب أن يسود بينهم لتقاسم أفضل واستفادة مثلى من لحظة جني الأرباح هذه.
لكن هذا المشهد ما كان ليكتمل لولا تنحي القوى الدولية أيضاً، وانخراطها في بؤر صراع بعيدة من الإقليم. فالغرب يواجه اليوم تحدياً جدياً ثنائيّ السن: الأول، هو التهديد الصيني وبؤرته الخطرة في خليج تايوان، والذي يتوجب على الولايات المتحدة الأميركية مواجهته. والثاني، هو الخطر الروسي في شرق أوروبا، وبؤرته اليوم أوكرانيا، والذي يتوجب على الأوروبيين التصدي له. إن مخاطر وارتدادات هذين التهديدين، لا يمكن مقارنتهما بالأخطار منخفضة الحدة بالنسبة للقوى العظمى في الشرق الأوسط، مثل خطر الأصولية الإسلامية، أو ارتدادات النزاع العربي الإسرائيلي، أو حتى المخاطر على سوق الطاقة، فقد ثبت في العقدين الماضيين أن هذه الأزمات لا حل نهائياً لها من ناحية، ويمكن إدارتها من ناحية أخرى.
من ناحية ثالثة، غدت صراعات الشرق الأوسط متشابكة ومعقدة ومتشعبة إلى مستوى يصعّب على اللاعبين الدوليين تجنب التورط في نزاعات لا تعنيهم وليست ضمن أولوياتهم. ربما كانت صراحة الرئيس الأميركي أوضح شاهد على ذلك، حين تساءل متذمراً عن السبب الذي يستدعي إرسال قواته للتمركز بين قبائل متصارعة فوق كثبان من الرمال!
ومن أسباب الميل إلى الاستقرار أيضاً، ظهور قيادات جديدة في المنطقة، في الخليج العربي على وجه التحديد، تطمح إلى فك الارتباط جزئياً بالقوى الراعية لها، وإلى اجتراح سياسة خارجية على المستوى الإقليم في أقل تقدير، خاصة بها ومتوافقة مع مصالحها وأهدافها الاستراتيجية. وعلى رأس تلك المصالح، احتفاظها بسلطتها التقليدية واستمراريتها، خصوصاً في ضوء حقبة الربيع العربي العاصفة، وهذا لن يكون ممكناً ما لم يحدث التفاهم مع القوى الإقليمية المجاورة.
سنكون إذن أمام مرحلة يحيّد فيها الشرق الأوسط عن مسار الصراعات الدولية، أو تنأى قياداته بنفسها عنها. فالإقليم وسكانه وقضاياه ما عادوا خطراً على النظام العالمي، سواء تعلق الأمر بالنفط أو بالجهاديين، أو يمكن اعتبار خطره منخفضاً بحيث يمكن للسلطات المحلية السيطرة عليه فيما لو تركت وشأنها.
الحياد أو التحييد يمكن ترجمته إلى استقرار وازدهار، لكن ليس بإطلاق ومن دون تحذير. فلا ضمانة لعدم انزلاق نيران الصراع الدولي إلى المنطقة مرة أخرى، وعلى نحو فجائي، وعندها لن تملك قيادات المنطقة الخيار في الحياد. من ناحية أخرى، وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن عهود الاستقرار لطالما كانت عملياً مرحلة تكوّن ونمو عوامل وقوى جديدة مضادة للوضع القائم، تقفز في زمن غير معين مسبقاً، لتطيح التوازنات والمعادلة السائدة ظاهرياً، وترسي وضعاً جديداً، أو تشرع الأبواب على مرحلة نزاع ممتد آخر. ولأن ما يبدو وئاماً وبوادر استقرار في المنطقة يقام على ما لا يحصى من القضايا التي لم تحلّ، وعلى رأسها قضايا حقوق الإنسان والديموقراطية، فإننا نستطيع أن نقصر رؤيتنا لمدى الاستقرار الذي يبشَّر به في عواصم الشرق الأوسط، على كونه ثباتاً على مستوى السلطات الحاكمة، وفي مجال الاستثمار الاقتصادي والتعاون المتبادل على هذا الصعيد، والذي يغطي ويغذي، تيارات أعماق معاكسة على المستوى الاجتماعي.
المصدر : موقع المدن