حسام جزماتي
خلال أيام زيارته للشمال المحرر أتيحت لرئيس «المجلس الإسلامي السوري» فرصة إلقاء خطبة جمعة واحدة. ولا شك أن أفكاراً عديدة تزاحمت في ذهن الشيخ قبل أن يختار منها ما رآه الأجدر بأن يحدّث به جمهوره في جامع اعزاز الكبير في السادس من آب الجاري.
رأى الرفاعي، المهجّر سياسياً من العاصمة السورية دمشق إلى مقر إقامته الحالي في إسطنبول، أن المعارك التي تخوضها «الأمة» كثيرة في هذا الزمان، لكن أخطرها، وأحقها بالتنبه له في ذلك المكان بالذات، هو معركة الدين (الهوية). إذ لو قُتل المسلم في معركة الحرب فسيدخل الجنة في أغلب الظن، أما لو خسر معركة العقيدة فأي شيء ينفعه بعد ذلك؟
هذا هو منطق الشيخ. وهذه هي الأولويات التي دفعته إلى اختيار موضوع استنكره كثيرون، في حين أكد هو على تقصّد هذا الحديث «في الداخل السوري المحرر» بالذات لأن هذه المنطقة «مستهدَفة لإقامة معارك مع أفكارنا ومبادئنا وقيمنا وأخلاقنا» بسبب انفتاحها على عمل المنظمات الدولية التي تشتغل في غياب سلطة مركزية.
بهذا المعنى لا يبدو الرجل «منفصلاً عن الواقع»، لكن للواقع في ذهنه خريطة خاصة تبدأ منذ أن فقد الغربيون الأسرة بشكل تام، وهم «يودون أن نخسر كما خسروا». ولذلك حشدت «الدوائر الاستعمارية، دوائر الكفر والضلال في الغرب، جيوشاً وأدخلتها إلى بلادنا لتحرف الشباب عن أخلاقهم وعن قيمهم». ليست الجيوش عسكرية هذه المرة، بل مؤسسات تبدأ بالأمم المتحدة وتصل إلى «منظمات بعناوين خيرية، عناوين إغاثية، عناوين تنموية، عناوين تدريبية» جندت «نساء من أبناء جلدتنا» لينشرن «بين فتياتنا خاصة، ما يسمونه بتحرير المرأة، ما يسمونه بالجندر، وأن تُمكَّن المرأة من حريتها»، عبر دورات مجانية «بعناوين مغرية ولكن فيها السم». هذا «أخطر من معركة القتال»، والانتباه إلى هذا «السوس الذي بدأ ينخر في بلادنا» إنما هو «واجب من أوجب الواجبات» في نظر الشيخ.
عقب نشر الخطبة، وتداول ملخصها وعناوينها على وجه الخصوص، تناولتها نسويات ومثقفون في منشورات شخصية مستهجِنة وساخرة، أدمجتها بخطاب ذكوري يشجع على التحرش ويتستر على الابتزاز الجنسي ويبارك «جرائم الشرف»، على الرغم من انتماء هذه السلوكات، وأشباهها، إلى ذكورية تقليدية تقف على يمين الدين ولا تستجيب للحدود التي يخطّها رجاله. وهنا تظهر بعض عيوب خطاب النسوية في تمتين جبهة خصومها. وتلت ذلك موجة أخرى كبيرة من ردات الفعل التي أيدت الشيخ في المهمة التي تصدى لها في «حراسة الدين والمجتمع»، والحفاظ على التراتبية المألوفة فيه بين الرجال والنساء وبين الآباء والأبناء، وعلى موروثات بناء الأسرة وتماسكها وصيانتها من تيارات «خرَبان البيوت».
في كل ما سبق معالم صراع اجتماعي عميق بين نظامين. وهو صدام أطلقته العولمة وتمركز القيم البشرية الغالبة في مؤسسات دولية، أبرزها الأمم المتحدة ومجالسها المتعددة، مع منظومات تقليدية محلية في شتى أنحاء العالم. ما ألقاه الشيخ تعبير نموذجي عن خطاب «أصالة» تهتز أركانها في أرجاء الأرض المتعددة. ولا يختلف، إلا في المفردات، عن أي خطاب أصالي مسيحي أو يهودي، وعن تذمر أي من رجالات المجتمعات التقليدية في الشرق الأقصى أو أفريقيا من تأثر الشباب والفتيات بالإنترنت ومغادرتهم قيم الأجداد. وقد تأخر هذا الصراع في الوصول إلى سوريا، جزئياً بسبب السلطة الأسدية التي كانت تمسك، قدر استطاعتها، بصمام التفاعل مع الغرب قبل عولمة الإعلام وثورة الاتصالات. ومن جهتها أسهمت الثورة، واللجوء الذي أعقبها إلى الدول الغربية، في كسر القوقعة بشكل غير مسبوق وأسرع من أن يستوعبه من وقع عليهم. وقد أتاحت القوانين الأوروبية، الصارمة في قضايا النساء والصغار والأقليات، فرصة الحماية لأعداد متزايدة من طالباتها وطالبيها من أفراد اللاجئين السوريين.
هناك، إذاً، تتجلى معركة الأصالات المحلية، التقليدية والدينية والقومية والوطنية، مع القيم الغربية التي تشكل العالم. أما في اعزاز السورية فتبدو أصداؤها فقط، وهي موجات واهنة في مجتمع ذكّرته الحرب. والأولى بالشيخ، الذي لم يغفل عن ذكر الأمم المتحدة كعدو، أن يعرف بالتالي أن معركته هي مع تيارات كبرى متصاعدة التأثير دون أبعاد تآمرية خاصة بمجتمعه، وأنه من البديهي أن تعتنق نساء (ورجال) من بلده هذه الأفكار دون أن يكن «مجندات» بالضرورة. هذا صراع ثقافي وينبغي على أطرافه أن يخوضوه باستقامة. وكما يقوم رجال المكونات المختلفة التي تشكل «المجلس الإسلامي السوري» بطرح أفكارهم، على المنابر وفي الدروس والدورات الشرعية، دون أن يقول أحد إنهم «مجندون» لأداء هذا الدور لقاء رواتب يتقاضونها، فإن من حق الآخرين (والأخريات) التعبير عن توجهاتهم ورؤاهم دون تسليط سيف العمالة للغرب، والاستجابة الانتهازية والخنوعة للتمويلات، على رقابهم. فمن الطبيعي، بعد انحسار اقتصادات الدولة والمجتمعات والأفراد في سوريا، أن أي مشروع صار يحتاج إلى منظمات وإلى ممولين، سواء أكان مناهضة للعنف ضد المرأة أم إسلاماً وسطياً أو متطرفاً.
وبالنظر إلى الاستقبال الواسع الذي حظي به الرفاعي في الشمال، رسمياً وشعبياً، وخاصة لقاءه في وزارة الدفاع مع قادة الفصائل، والحفاوة الخاصة التي لقيها من «الجبهة الشامية» وقائدها أبو أحمد نور، الآتي من خلفية تعليم شرعي؛ فإن مسؤولية الشيخ المحافظ تكون أكبر حين يتحدث عن مراكز تضليل عالمية «أقامت لها فروعاً في بلادنا وبين بيوتنا». فماذا لو حرّض ذلك بعض المتحمسين على أن يزيلوا بأيديهم بؤر «المنكر» الذي حذر منه الشيخ بلسانه، أو للاعتداء على «المجندات»، في منطقة يسهل فيها ذلك نتيجة تهافت السلطة الأمنية؛ ألا يكون هذا نتيجة مباشرة للخطبة؟!
أنهى الرفاعي حديثه بالقول «هذا واجب أضعه بين أيديكم، وأبرّئ ذمتي بين يدي الله أن قد قلت ما يجب عليّ أن أقوله». والحقيقة أنه من المنتظر من مرجعية في مكانته، بالاحترام الكبير الذي تحوزه لدى قطاع سنّي واسع، أن تمتلك رؤية أشمل من مجرد نقل ما يراه «مسؤولية» من رقبته إلى أعناق جمهوره. أولاً في النظر إلى العالم بطريقة موضوعية تعتمد على معلومات سليمة، وثانياً بالتعاطي مع مخالفيه كأصحاب وجهات نظر لا عملاء، وثالثاً بتقدير ما قد يترتب على كلامه من نتائج عملية على خصوم ضعفاء، هنا والآن.
المصدر: syria.tv