يقال بأن الصورة أفضل من ألف كلمة و ربما كانت هذه الصورة أفضل من ألف صورة في تلخيص المشهد الفكري السائد في العالم العربي و الاسلامي.
الصورة مأخوذه من أحد وسائل الاعلام تقول بأن “الهلال تعذرت رؤيته” ! هناك احتمالان لهذه الحالة: أولا يمكن أن تقول الحسابات أن رؤية الهلال في ذلك الموقع مستحيلة فعندها ما هي الفائدة من هذه المراقبة ؟
الاحتمال الثاني هو أن الحسابات تشير الى أنه يمكن رؤية الهلال في ذلك الموقع و عندها فماذا تفعل هذه المجموعة ؟ ثم ما معنى رؤية الهلال ؟ هل هي المقصودة في حد ذاتها أم أنها دليل على ميقات دخول الشهر و لو كانت الرؤية هي المقصودة فلماذا قال القرآن فمن شهد منكم الشهر فليصمه و لم يقل فمن شهد منكم الهلال ؟
سيقولون أن رؤية القمر هي شيء مختلف عن وجوده في مكان ما من السماء و هذا صحيح و لكن هل تخرج مثل هذه المجموعة لتتأكد من وصول الشمس لكبد السماء وقت االظهر أم أنها ستقول في يوم غائم أنه تعذر رؤية الشمس ؟ الصحيح أيضا أننا باعتماد الرؤية لا يمكننا أبدا أن يكون عندنا تقويم (أو تأريخ) هجري يمكن استخدامه عمليا و بالتالي نكون قد قتلنا هذا التقويم بأيدينا.
و لعل المفارقة هنا أن هذه المجموعة التي ترفض استعمال التقنية متمثلة بالحساب الفلكي و لكنها في نفس الوقت لا تمانع في استخدام تقنية هذه المناظير ثم نقل قرارها برفض استعمال تقنية الحساب الفلكي عبر وسائل تقنية أخرى متمثلة بوسائل الاتصالات الحديثة ! …
و هنا حري بنا أن نتوقف قليلا و نتفكر في هذا التناقض. كيف يمكن لعقل سوي أن يجمع هذا الكم من التناقض في تعامله مع القضايا و ما هي مخاطر هذا النوع من التفكير و تأثيره في حياة شعوبنا.
إذا نظرنا لهذه التصرفات من وجهة نظر فاعليها وجدنا أنهم يزعمون اتباع الحديث النبوي “صوموا لرؤيته و افطروا لرؤيته” و أن الفلاح و النجاح في الدارين إنما يكون بالاتباع الحرفي لما ورد في الدين من آيات و أحاديث. و لكن هل هذا صحيح ؟
الأوامر و النواهي و التعليمات التي جاءتنا هي في حقيقة الأمر نوعان: نوع قليل جدا و يتعلق بتعليمات أخلاقية عامة لا تتغير و لا تتبدل مثلا النواهي في هذا النوع تتضمن النهي عن الإشراك بالله و القتل خارج نطاق القانون و السرقة و الكذب و الخيانة و الحسد و الزنا ثم هناك الأوامر و تتضمن الأمر ببر الوالدين و الصبر و الصدق و الوفاء بالوعد و العدل. هذه النواهي و الأوامر تتعلق بطبيعة النفس البشرية و علاقتها مع الخالق و مع الآخرين و بالتالي فهي خالدة لا تتعلق بظرف معين أو بيئة محددة و هي مشتركة بين الأديان السماوية و يمكن رؤيتها في نصوص كتب تلك الأديان.
أما النوع الآخر من التعليمات فهي تاريخية ظرفية بمعنى أنها تتعلق بالظروف التي كانت سائدة و عليه لا يجوز استعمالها في كل الظروف و الأحوال لأن ذلك يفترض أن الحياة توقفت عن التغير منذ ذلك التاريخ تماما و هذا ينافي الواقع و لا يقول به عاقل و لذلك ظهرت النظرة المقاصدية في الاسلام لتفكيك تلك الاحكام و فهم المقصود منها ثم العمل حسب تلك المقاصد و الأهداف و تلك المقاصد تتعلق بمصلحة الانسان و فائدته و هي عامة و شاملة و ايضا تتمتع بالثبات الظرفي و التاريخي.
على أن ما حدث في التاريخ الاسلامي هو تراجع التوجه العقلاني المقاصدي لصالح التوجه الحرفي الآبائي و من المفارقة هنا أن الأديان جميعها جاءت لمحاربة الآبائية و التي كانت دائما ضد أي تجديد أو نهضة و ليس من سبيل الصدفة أننا في هذه الأيام التي نعاني فيها من التراجع الحضاري و الثقافي الكبير نرى هيمنة شبه مطلقة للفكر الآبائي السلفي و لذلك لا يمكن الخروج من قمقم التخلف الذي نعاني منه ما لم يتم الانتقال للفكر المقاصدي المنفتح و دفع الفكر الآبائي للهامش أما اذا لم تنجح مجتمعاتنا في ذلك فإن الانحدار سيستمر و نحن نرى ذلك و نختبره و كمثال على استمرار الانحدار نرى أنه بعد أن قرر علماء المسلمين مثل البيروني منذ أكثر من ألف عام أن الأرض كروية و قاموا بالفعل بقياس قطرها بدقة مدهشة نرى من شيوخ المدرسة السلفية المعاصرين من ينكر هذه الحقيقة بل و يبدع و يفسق و ربما يكفر من يقول بهذه الحقيقة و هم ينطلقون من النص القرآني بأن الله مد الأرض مدا …
و من أهم خصائص هذه المدرسة أنها تنزع من الإنسان الصفة الاستثنائية التي أسبغها الله عليه و هي صفة القدرة على استعمال العقل و إدارة حياته فاستعمال العقل بنظرهم هي صفة مرذولة لأنها حسب رأيهم تقود الى الضلال في تناقض واضح مع القرآن الذي ينقل صورة الخاسرين يوم القيامة و ندمهم لعدم استخدام عقلهم ” و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير” (الملك- 10) و هي تريد فرض الوصاية الفكرية الشديدة عليه رغم التوجه القرآني الواضح في هذا الشأن و الذي أعطى الإنسان الحرية ليعتقد ما يشاء حتى لو اختار أن لا يؤمن بالخالق فله ذلك ” و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس- 99) و طبعا نحن لا نتحدث عن الفوضى فللمجتمع نظمه و قوانينه التي تحاول الموازنة بين حرية الفرد و حرية الآخرين و سير المجتمع و مصلحته و بالتالي فهي تشكل حدود الحرية الفردية على النطاق العملي و لكن سوى ذلك فالانسان يجب أن تكون له مساحته و لعل الأنظمة الغربية المعاصرة تمثل تجربة انسانية فريدة في هذا الاتجاه و بدلا من شيطنة هذه التجربة فمن الحكمة الاستفادة منها بل و تطويرها لخدمة الإنسان بغض النظر عن اعتقاده. و يجب التنويه هنا الى أن التوجه السلفي ليس محصورا بالاسلام و لكنه يتواجد في جميع الديانات و لو بنسب متفاوتة فهناك مثلا تيار قوي في الولايات المتحدة يتداخل مع العنصرية العرقية مما ينتج صراعا دائما بين هذا التوجه الذي يمسى أحيانا بالتيار “المحافظ” و بين التوجه “التقدمي” من جهة أخرى.
التفكير الآبائي بطبيعته معاد للعلم و لذلك فإنه في ظل سيطرة هذا الفكر لا يمكن تحقيق أي تقدم علمي و هذا ما نراه واقعا ففي العالم العربي هناك صور التقدم من مرافق حديثة و جامعات و لكنها لم تستطع تحقيق أي تنمية فعلية فهذه المرافق هي مرافق مشتراة بالمال ووجودها مرهون باستمرار توفر تلك الأموال و رغم الأعداد الهائلة من الأطباء و المهندسين الذين يتخرجون من جامعات المنطقة فليس لهم اي دور في دفع عجلة التقدم و أقصى ما يمكن أن يقوموا به في بلادهم هو إدارة التقنية المستوردة و العمل ضمن إطارها سواء كانت في الإنشاءات أو المرافق الصناعية الاستهلاكية أو التقنية الطبية بأجهزتها أو أدويتها لأن التقدم يقوم على طريقة تفكير مختلفة عن تلك التي تقدس حفظ النصوص و نقلها و سردها و تحارب المناقشة و التجديد و الإبداع فإذا كان الهدف نقل التراث فإن التجديد و الإبداع ليس ضروريا بل هو عائق في وجه هذه المهمة و هكذا انسحبت طريقة التفكير هذه على جميع نواحي الحياة. و اذكر أنني كنت حاضرا في مناسبة حيث تم الاحتفال بأحد الأشخاص و تقديره كونه يحفظ القرآن و عدة كتب أحاديث ضخمة و لا شك أنه انجاز شخصي كبير و لكن كان في الحضور مفكر له افكار جديدة مبدعة لم يلتف اليه أحد و لا يحظى بأي تقدير بل الموقف منه هو العداء و في أحسن الأحوال الحياد ! و لا شك أن للتيار السلفي فوائده في حراسة التراث و لكن تقدم الأمم يتطلب نوعا آخر من الفكر فالتقنية هذه الأيام جعلت الحاجة لحفظ الذاكرة شيئا غير أساسي و لا تتطور الأمم إلا بمقدار ما تقدمه من حلول لمسائل تواجه البشر في حاضرهم و ترسم لهم رؤية مستقبلية مشرقة محفزة و ليس التغني و العيش في الماضي مهما كان مجيدا.
و نستطيع رؤية الآثار المدمرة لهذا الفكر في نواح كثيرة في حياتنا و لعل أبرزها وضوحا ما نراه من الفوضى و التمزق في تحديد الأشهر القمرية و التي تعيق الوصول لتقويم أو تأريخ هجري مفيد و رغم الفوائد الهائلة لاعتماد قواعد تستفيد من التقدم العلمي و لا تتعارض مع الطريقة التقليدية و روحها الا أن التفكير الآبائي يمنع ذلك و لو أدى لفوضى عارمة و أضرار كبيرة فالمهم هو أننا وجدنا نصا و تبعناه حرفيا دون اعتبار أي شيء آخر.
و هذا الموقف من العلوم “غير الشرعية” بل و حتى الشرعية التي خرجت قليلا عن ما هو مألوف ليس جديدا تماما ففي تراثنا يعرف “العلم النافع” بما يلخصه البيت: “العلم ما قد كان فيه حَدّثَنا ***وما سوى ذلك وسواس الشياطين” أي أن كل العلوم “غير الشرعية” مضيعة للجهد و الوقت و ربما أسوأ … و بالتالي فنقطة البدء تكون بالمراجعة لتاريخنا و تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة و إعادة صياغة أسس تفكيرنا بما يخدم توجهنا نحو النهضة و بناء الحضارة و الا بقينا أبد الدهر بين الحفر