تسيطر على العقلية السياسية العربية مجموعة من القناعات التي رسخت بمرور الوقت أفكاراً عن الآخر وعن العالم بشكل عام، باتت محسومة كحقائق لا تقبل الجدل، إلا أنها في الواقع مجرد أوهام، أو في أحسن الأحوال أنصاف حقائق لا يحتاج الكشف عنها سوى قليل من الجهد.
ولأن فكرة المؤامرة كانت إحدى أبرز وأخطر الأفكار المهيمنة على العقلية العربية، إلى الحد الذي باتت معه هذه الفكرة عامل تقييد ودافعاً لليأس والاستسلام، فإن قناعات أخرى أقل خطورة، لكنها لا تقل أهمية، تحتاج إلى نقد وتفكيك لكي نتمكن، على الأقل، من فهم التعقيدات والمآلات التي صارت إليها الثورة السورية.
أولى هذه القناعات أن الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها القوة العظمى في العالم اليوم، هي التي تتحكم في العالم بأسره، وأنه لا يمكن أن تبت أي دولة أو قوة في أي مسألة دولية دون رضى وموافقة واشنطن.
والحقيقة أن أحداً لا يمكن أن يتجاوز حقيقة أن أميركا هي بالفعل الدولة الأقوى في العالم اليوم، إلا أن هذا لا يعني أنها تمتلك القوة المطلقة التي تمكنها من التحكم في كل ما يجري، بل إن هذا التصور يغفل محطات خيبة أميركية كثيرة خلال العقود الماضية التي هيمنت فيها الولايات المتحدة على العالم، كالهزيمة في فيتنام وانهيار مشروع هيمنتها في أميركا الجنوبية، والفشل في أفغانستان والعراق، وتلقي ضربات مؤلمة من قبل التنظيمات الجهادية السنية والشيعية، وقبلها الجماعات اليسارية الثورية، وغيرها الكثير أيضاً.
طبعاً يوجد الكثير ممن يضعون حتى هذه الوقائع ضمن نظرية المؤامرة الأميركية ذاتها، ويصرون
القناعة الثانية حول أميركا في مخيلتنا، هي أنها دولة تحكمها استراتيجية طويلة الأمد، وأن هذه الاستراتيجية تقوم عليها مؤسسات ضخمة ومعقدة
على أن الولايات المتحدة هي من كانت تهزم نفسها هنا وتضرب نفسها هناك، هي من كانت تفشل نفسها في مكان ثالث، لتحقيق أهداف لا يمكن لأحد أن يعرفها إلا أميركا ذاتها، لكن علينا رغم ذلك أن نؤمن بها (!!!).. تصور لا يمكن حتى التوقف عنده فضلاً عن مناقشته.
القناعة الثانية حول أميركا في مخيلتنا، هي أنها دولة تحكمها استراتيجية طويلة الأمد، وأن هذه الاستراتيجية تقوم عليها مؤسسات ضخمة ومعقدة، وبالتالي لا يمكن أبداً للاستراتيجية الأميركية في أي مكان من العالم أو حول أي ملف أن تتعثر أو تتعرض لأي خلل، ناهيك عن الفشل، وهذه قناعة بدائية هي الأخرى من السهل أن تتهاوى أمام الواقع.
ولكي لا نعوم بعيداً عن شواطئنا، ففي القضية السورية خلال السنوات الأخيرة الماضية فقط يوجد ما يكفي ويفيض من الأمثلة على تهافت هذه الفكرة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما أنفقت نحو مليار دولار على تجنيد وتدريب مقاتلين سوريين معارضيين من أجل قتال داعش، إلا أن استراتيجيتها هذه فشلت في تحقيق أي نتائج تذكر، إلى الحد الذي تبخرت معه (الفرقة ٣٠) التي أسستها ودربتها واشنطن خلال أيام، وسلم الكثير من مقاتليها أسلحتهم لجبهة النصرة عام ٢٠١٥ مقابل السماح لهم بالمرور الآمن في مناطق سيطرتها !!.
طبعاً على المستوى الإقليمي والدولي يوجد عدد غير محدود من الأمثلة عن المرات التي فشلت فيها سياسات الولايات المتحدة أو تقديراتها أو استراتيجياتها. كما أن قراءة مذكرات رؤساء ومسؤولي أميركا السابقين، والاطلاع على ملفات الاستخبارات التي ترفع السرية عنها بحكم عامل الزمن، يتيحان معرفة الكثير من التفاصيل التي تثبت أن الدولة الأميركية ليست محكومة بقوى خارقة أو استراتيجيات محكمة كما يظن الكثيرون، بل وأكثر من ذلك، ربما تتسبب الافكار المتضاربة والتقديرات الشخصية للمسؤولين والقادة فيها بحدوث الكثير من الفشل، كما تكشف المذكرات والوثائق أن الصدف والمغامرات تسببت أيضاً في كثير من النجاحات الأميركية غير المتوقعة.
مناسبة هذا الحديث هو عدم فهم السياسة الأميركية الحالية التي يقودها الرئيس دونالد ترمب، حيث يسيطر التخبط ويصبح التغير هو الثابت الوحيد في هذه السياسة، بينما لا يمكن إخفاء التضارب والتباين في وجهات النظر بين مؤسسات الإدارة الأميركية، ما يستدعي استقالات وإقالات بشكل شبه أسبوعي، وهو مؤشر صارخ على الفوضى وعدم الاستقرار في إدارة الملفات الخارجية بسبب طبيعة شخصية ترمب ذاته، والبيئة التي تحيط به، إن كان في البيت الأبيض أو الكونغرس أو مجلس الشيوخ، وحتى داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، وهي بيئة متوترة سلبية لا يمكن أن تنتج نجاحاً، وتؤشر على نتائج سلبية
لقد أدركت تركيا منذ الفترة الرئيسية الثانية للرئيس السابق باراك أوباما، أن الولايات المتحدة لم تعد الفاعلة الوحيدة في العالم
تنتظر الولايات المتحدة خارجياً، إلا أنه ورغم ذلك، فإن الكثيرين يرون أن كل ذلك لا يمكن أن يؤثر على خطط أميركا المقررة واستراتيجياتها المحسومة وقدراتها الاعجازية، بل إن هناك من يعتقد أن ما سبق هو جزء من الخطط والاستراتيجيات الأميركية ذاتها !!!
لقد أدركت تركيا منذ الفترة الرئيسية الثانية للرئيس السابق باراك أوباما، أن الولايات المتحدة لم تعد الفاعلة الوحيدة في العالم، وها هي أوروبا تدرك ذلك اليوم وتلحق بأنقرة في الانفتاح على الخيارات العالمية الأخرى، حيث فتحت كل من ألمانيا وفرنسا خطوط اتصال غير معهودة مع روسيا والصين، وهو الأمر ذاته الذي بدأت تعمل عليه بعض الدول العربية حتى المتنافسة منها (السعودية وقطر)، وهو ما يؤكد حقيقة أن أميركا اليوم تخسر ويجب عدم وضع كل البيض في سلتها.
المصدر: تلفزيون سوريا